أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [سورة النساء آية: ١٥] منسوخة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا:
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وقد ناقشه النافون.
أولا: بأن الناسخ هنا هو آية الجلد، وآية الشيخ والشيخة، وإن جاء الحديث موافقا لهما.
ثانيا: بأن ذلك تخصيص لا نسخ؛ لأن الحكم الأول جعل الله له غاية هو الموت، أو صدور تشريع جديد في شأن الزانيات، وقد حققنا أن رفع الحكم ببلوغ غايته المضروبة في دليله الأول ليس نسخا.
الدليل الرابع: أن نهيه صلّى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور ناسخ لقوله سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة الأنعام آية: ١٤٥].
وقد ناقشه النافون: بأن الآية الكريمة لم تتعرض لإباحة ما عدا الذي ذكر فيها إنما هو مباح بالبراءة الأصلية، والحديث المذكور ما رفع إلا هذه البراءة الأصلية، ورفعها لا يسمّى نسخا كما سلف بيانه.
من هذا العرض يخلص لنا أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلا ولا شرعا، غاية الأمر أنه لم يقع؛ لعدم سلامة أدلة الوقوع كما رأيت.
[القسم الثالث: نسخ السنة بالقرآن:]
وفيه خلاف العلماء- أيضا- بين تجويز ومنع على نمط ما مرّ في القسم الثاني: بيد أن صوت المانعين هنا خافت، وحجتهم داحضة. أما المثبتون فيؤيدهم دليل الجواز كما يسعفهم برهان الوقوع، ولهذا نجد في صف الإثبات جماهير الفقهاء والمتكلمين، ولا نرى في صف النفي سوى الشافعي في أحد قوليه ومعه قلة من أصحابه، ومع ذلك فنقل هذا عن الشافعي فيه شيء من الاضطراب أو إرادة خلاف الظاهر.
[دليل الجواز:]
استدل المثبتون على الجواز هنا بمثل ما استدلوا به على القسم السالف، فقالوا: إن نسخ السنة بالقرآن ليس مستحيلا لذاته ولا لغيره. أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فلأن السنة وحي كما أن القرآن وحي، ولا مانع من نسخ وحي بوحي لمكان التكافؤ بينهما من هذه الناحية.
واستدلوا على الوقوع بوقائع كثيرة، كل واقعة منها دليل على الجواز كما هي دليل على الوقوع، لما علمت من أن الوقوع يدل على الجواز وزيادة.