ثالثها: التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة، وعباداتهم الفاسدة، وعاداتهم المرذولة، وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا، فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل، انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا كان يبدأ بالأهم ثم المهم، حتى انتهى بهم آخر الأمر إلى التخلص من تلك الأرجاس كلها، فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج، وفطمهم عنها بسهولة ويسر، وكانت هذه سياسة رشيدة، لابد منها في تربية هذه الأمة المجيدة، لا سيما أنها كانت أبية معاندة، تتحمس لموروثاتها، وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات لأتفه الأسباب.
رابعها: تربيتهم على العقائد الحقة، والعبادات الصحيحة، والأخلاق الفاضلة بتلك السياسة الرشيدة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحية، وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد، وبراهين البعث بعد الموت، وحجج الحساب والمسئولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة، وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة، وختم بالحج في السنة السادسة منها وكذلك كان الشأن في أهم التشريعات.
أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب وتهذيب الجماعات وتربية الأمم؟
بلى، والتاريخ على ذلك من الشاهدين.
خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة، والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين، وما حصل لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين. والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [سورة النور: ٥٥].
وقد صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.