الجواب: أننا نلمح هنا سرّا جديدا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية، ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن، وأنه كلام الله الواحد الديان أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية ٨٢].
وإلا فحدثني- بربك- كيف تستطيع أنت؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجيء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها، ومتحدثا عنها؟!.
لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام.
أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا: نزل مفرقا منجما، ولكنه ثمّ مترابطا محكما وتفرقت نجومه تفرّق الأسباب، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب، ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما، ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما!!
أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات، ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، ومالك الأسباب والمسببات، ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون؟؟
لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال:
«ضعوها في مكان كذا من سورة كذا» وهو بشر لا يدري (طبعا) ما ستجيء به الأيام، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها، وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم، وينتظم ويتآخى، ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل أو تفاوت، بل يعجز الخلق طرّا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود: آية ١].
وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط، لا في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا في كلام غيره من البلغاء.