للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من سواه من الأنبياء، ولما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين، فلم يقدروا كما قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور آية: ٣٤]، ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [سورة هود آية: ١٣، ١٤]. ثم تحداهم بسورة في قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... [سورة يونس آية: ٣٨]، ثم كرر في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .... [سورة البقرة آية: ٢٣]، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء، نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن الكريم فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية: ٨٨] فهذا، وهم الفصحاء اللّدّ وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه، بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا شعر، وتارة قالوا أساطير الأولين، كل ذلك من التحير والانقطاع، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم، واستباحة أموالهم، وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه؛ لأنه كان أهون عليهم.

كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه لئلا تأتي محمدا لتتعرض لما قاله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟

فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره.

قال الجاحظ: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما

<<  <   >  >>