مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهرا عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد وصاه بإكرامها وإعزازها وصرفت زمانا طويلا فيا لطواف والجولان في البلاد الشرقية وأذهل الأهالي ما شاهدوه ومن أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة، وكانت هي تحاول بحذاقتها أن تضاهي (زينوبيا) ملكة الشرق في أعمالها وسنة ١٨١٣ م.
استوطنت دير القديس إلياس المهجور الواقع في جوار قرينه على مسافة ساعة من صيدا، فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون المتوسطة، وأنشأت هناك بستانا على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار والأشجار والفاكهة وكروما، وأقامت كشوكا مزينة بالنقوش والصور العربية، وجعلت للماء قنوات من الرخام وكانت تنبعث من نافورات وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضا، وكانت أشجار البرتقال والين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالا ونزهة ولم يمكث ذلك الدير حتى صار حصنا وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم، فبقيت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بتراجمة سوريين وأوربيين وحاشية كبيرة من النساء، وجماعة من العبيد السود وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن وكان لها علائق حبية وسياسية مع الباب العالي، وعبد الله باش، والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان، والشيخ بشير جان بلاد ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد.
ثم اتخذت لها مسكنا في بيت أخذته من رجل دمشقي مسيحي غني واقع على مرتفع يعرف بظرف جون نسبة إلى قرية (جون) التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة ٨ أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت، وأقامت حوله جنينة وسورا وبقيت فيه إلى أن توفيت، ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها فبلغ دخلها السنوي ١٣٠ و٤٠ ألف فرنك وكان مع ذلك غير كاف لسد المصاريف التي تقتضيها حالتها، غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لأن توافدها كان موقوفا على مواساتهم بالهدايا والعطايا فأمست منفردة وقلت علائقها مع الناس، ولكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيرا لعقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها، ولم تتأسف على ما فات ولا على العالم أجمع ولم يحزنها ترك خلانها وثروتها وميليها إلى الشيخوخة فأقامت وحدها من غير كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا ولم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط جماعة من الجواري السود وعبيد سود صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون بشأنها وخيلها، ويسهرون عليها من الطوارق.
وقد تحققت أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئا عن طباعها فقط، بل عن مبادئها الدينية المؤذنة بالشطط وكان في تلك المبادئ ما يدل على أنها جمعت بين الحقائق وعوائد شرقية خرافية ولاسيما غرائب فن التنجيم وعجائبه وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وزهدت أوروبا كلها وكان الأهالي عموما يسمونها بالست الإنكليزية. وأما الإفرنج فتعرف عندهم ب (لاري ستنهوب) .
ولما عزم إبراهيم باشا على فتح سورية سنة ١٨٣٣ م اضطره الأمر إلى أن طلب إليها أن تكون على الحيادة، ويقال: إن بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت مئين من الفارين وكانت تتعاطى فن التنجيم وغيره من الفنون السرية، واستمسكت ببعض عقائد دينية مستغربة فلم تعدل عنها حتى مماتها، ومما يدل على أن عقلها لم يخل من الاختلال في بعض الأمور أنها ربت حجرتين في إسطبل لتركب المسيح واحدة منها عند مجيئه إلى الأرض وتركب هي الأخرى مرافقة له إلى القدس، وفي السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في إنكلترا ما كان من أمرها، وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بسعي رجل يعرف باللقمجي فتوفيت ولم تقدر على وفائها، وهكذا الذين كانوا يحسبون أن في القرب منها