ويقال: إن مضايقاتها المالية مما كان بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، وقد سبب ذلك فيها من الخوف الذي أوقعها في مرض عضال قضت به نحبها ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج، بل أحاط بها جماعة من خدامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية وعند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت لأجل دفنها، ودفنت بالبستان المجاور لدارها، وقد روى الأهالي عنها قصصا كثيرة غريبة تكاد أن تكون من الخرافات لا يوثق بها وكتب الدكتور (مريون) الذين بقي عندها بضع سنين طبيبا لها سيرة حياتها بالإنكليزية في ثلاثة مجلدات رواية عنها وقصة أسفارها في ثلاثة مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
وقد زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم (دو لامرتين) الشاعر الفرنساوي المشهور فإنه لما كان في سورية سنة ١٨٣٢ م يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك الخاتون إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها ولاسيما الإنكليز ومن كانوا من ذوي قرابتها فبعث إليها مع رسول بالرسالة الآتية ترجمتها:
سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب يوما يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءه زائرا من أجمل سياحته وألذها، فإذا شئت أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي أينبغي أن أتوجه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك، وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سببا لتكلفك ما يزعجك في عزلتك فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوءني البتة رفضك مقابلتي، بل أتلقى ذلك بالتوقير والاحترام إلى آخره.
وفي ٣٠ أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جون فذهب مع الدكتور (ليوزدي) والموسيو (يرسيقال) ولما وصلوا نزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل ساعة الثالثة بعد الظهر، فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها قال: وكان الظلام قد أسبل عليها ذيله فلم أتمكن بسهولة من أن أتبين هيئتها اللطيفة المؤذنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبيح، فنهضت وهي في زي الشرقيين، ودنت مني، ومدت إلى يدها مسلمة علي فأمعنت بها بالنظر، وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه.
نعم، إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الفتوة إلا أنه متى كان الجمال في القد وهيئة الوجه مع العظمة والجلال، وطرأ عليه تقلبات باختلاف أزمان الحياة لا يزول تماما، وهذا كله على (لاري ستنهوب) وكان على رأسها عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون طرفاها مرسلان على كتفيها وعلى بدنها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض، كماه متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد أن تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ، وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها تعودته من صغرها.
وبعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت مشاق السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر غير أن مكتوبك أعجبني وودت أن اعرف إنسانا يحبا لله والطبيعة والانفراد، وذلك نفس ما أحبه ولاح أيضا أن يجمعنا متحابين وإننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أمورا تجعلني أن لا أندم على رغبتي في مشاهدتك، وناهيك أنني لما سمعت وقع قدميك وأنت داخل خالجني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا