على الأعداد، اكشف لنا عن اسمك، وارفع لثامك· فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت الروم من كل جانب، وكذلك المسلمون وقالوا: أيها الرجل الكريم أميرنا يخاطبك وأنت تعرض عنه أظهر لنا اسمك لنزداد تعظيما، فلم يرد عليهم جوابا· فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال: ويحك، لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، من أنت؟ فلما ألح عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه قال: إنني أيها الأمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد· فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور أخت ضرار المأسور بيد المشركين وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن أسير، فركبت وفعلت ما رأيت، وعند ذلك حمل المسلمون وحملت خولة وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة، وأما خولة فإنها جعلت تجول يمينا وشمالاً، وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثرا، ولا وقعت له على خبر وجعلت تسأل عنه لم يجبها أحد ولم تر من المسلمين من يخبرها أنه نظره أورآه أسيرا أو قتيلا فلما أيست منه بكت بكاء شديدا وجعلت تقول: يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك، أم بأي حسام قتلوك· يا أخي أختك لك الفداء لو أني أراك أنقذتك من أيدي الأعداء. ليت شعري أتري أني أراك بعدها أبدا، فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ سعيرها· ليت شعري ألحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء· فبكي الناس من قولها عند سماعها ونياحها· ومن وقائعها أيضا ما ظهر من بسالتها يوم أسر النسوة في وقعة صحورا من أعمال الشام وقد جمعت النساء وقامت فيهم خطيبة وكانت هي من ضمن المأسورات فقالت: يا بنات حمير وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم ويكون أولادكن عبيدا لأهل الشرك! فأين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب ومحاضر الحضر؟ وإني أراكن بمعزل عن ذلك وإني أري القتل عليكن أهون من هذه الأسباب وما نزل عليكن من خدمة الروم· فقالت لها عفراء بنت غفار الحميرية: صدقت والله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي الرباعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح· فقالت خولة: يا بنات التبابعة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم فنستريح من معرة العرب· فقالت عفراء بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمودا وسعت من ورائها عفراء أم أبان بنت عتبة ومسلمة بنت زارع ولبنى ومزروعة بنت عملوق وسلمة ابنة النعمان ومثل هؤلاء فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت واحطمن رماح القوم واسكرن سيوفهم، وهجمت خولة وهجم النساء وراءها وقاتلن قتالا شديدا حتى استخلصت النسوة من أيدي الروم وخرجت وهي تقول:
نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر
ومن قولها حين أسر ضرار في المرة الثانية في " مرج دابق":