وكانت أمها دمثة الأخلاق لينة العريكة، قانعة بهبات الباري تعالى· وكان أبوها طماعا سيء الطباع كثير التذمر والحقد على المكارم والأشراف، زاعما أنهم علة تعاسته وسبب فقره· ولذلك كان يندد بهم ككثيرين غيرهم من الفرنسويين، وتعلمت القراءة والكتابة قبل بلوغها الرابعة من عمرها، وتعلقت بالمطالعة حين لم يكن لأبويها طاقة على ابتياع الكتب لها، فأرسلاها إلى دير من الأديرة لتقتبس العلوم عن راهباته فأظهرت فهي من النجابة والبراعة في كل علم تعلمته ما جعلها فخراً لمعلماتها وقدوة لرفيقاتها، وأجادت في الموسيقى والتصوير وطالعت كل ما عثرت عليه من التواريخ ودواوين الشعر والرحلات والمقالات الدينية والعلمية والفكاهية والسياسية وبالغت في استقصاء أحوال اليونان والرومان القدماء واشتد ميلها إليهم· قيل: إن أباها وجدها ذات يوم منخرطة في البكاء من أجل أنها لم تولد رومانية وكثيراً ما كانت تتصور أمامها اليونان في سلطتهم والرومان في أوجه عظمتهم وتقابل بين أحوال ذينك الشعبين العظيمين وأحوال بلادها التي كانت قد أفرطت في الملاهي والترقي، وتهافتت على الباطل· فتنفر نفسها الأبية من الدنيا التي انغمس فيها أكابر قومها وتتمنى أن يسود الإنصاف وتسن بها الشرائع العادلة أبناء وطنها· والظاهر أن ذلك رسخ في ذاكرتها منذ نعومة أظافرها لكثرة ما كان أبوها يلقي على مسامعها من الأحاديث عن الملوك والأشراف، وهو يجول بها في شوارع باريس، ويريها قصورها الشاهقة ومبانيها الفاخرة وأشراف المدينة، وسيداتها خارجين إلى المتنزهات العمومية في عجلاتهم المذهبة بالخدم والحشم، لا هين بالأحاديث الفارغة، وخيولهم تدوس المساكين والبائسين وهم لا يبالون، ثم يقول لها: انظري يا ابنتي أين العدل والإنصاف؟ أين الآخذون بناصر الإنسانية ليقتصوا من هؤلاء البرابرة القساة ألا ترين أنهم يتوسدون الحرير والديباج، ويعيشون بالترف والعشب غارق في بحار الهموم محاط بالأتعاب يصل الليل بالنهار في الكد والكدح ليحصل الخيرية التي يتمتع بها هؤلاء العتاة؟
وخرجت من المدرسة وهي في الرابعة عشرة فجعلت أمها تمرنها على أشغال البيت فتخضع لأوامرها خضوعا تاما علما منها أن الأشغال البيتية من أهم واجبات المرأة، وكانت تبتاع لوازم بيتها بنفسها، فأكرمها البائعون لنباهتها ورزانتها، ولما بلغت سن الزواج تقاطر عليها الطلاب من كل فج، فرفضت طلبهم قائلة لوالديها: إن الطبيعة والشرائع قد اتفقت على وجوب تفضيل الرجل على المرأة فأخجل أن أختار من لا يكون أهلا لهذا المقام السامي وحدث أن أحد الأشراف دخل مخزن أبيها ورأى إنشاءاتها فدهش من براعة أساليبها، وراعه إتقان قريحتها، فكتب إليها كتابا يحثها فيه على التأليف، فأجابته لذلك بأبيات شائقة دقيقة المعنى أظهرت فيها الموانع التي تحول دون وصول المرأة إلى مثل تلك المنزلة الرفيعة، ومن ذلك اليوم جرت المكاتبة بينهما وكان لهذا الشريف ابن من أهل الطيش والجهالة فأراد أن يزوجه بها ظنا منه أن حكمتها وعزمها يهديانه سواء السبيل، فأبت ومن معرفتها بهذا الرجل تمكنت من معاشرة الأشراف رغبة في الاطلاع على شؤونهم ولكنها لم تقتبس شيئا من عوائدهم القبيحة ولا شاركتهم في آرائهم، بل زادت بهم احتقارا إذ كان دأبهم الطرب والملاهي، وهمهم التأنق بالزينة والملابس· وفي ٤ شباط (فبراير) سنة ١٧٨٠م، تزوجت ب"رولاند" أحد مفتشي المعامل في مدينة "ليون" وكان رجلا من ذوي الوجاهة والبراعة في العلوم جامعا بين الفضائل والمكارم، مشهوراً بالفضل والمآثر، له كتابات عديدة تدل على جودة عقله، فأقاما سنة في باريس ثم انتقلا إلى مدينة "امبان"، ثم رجعا منها إلى "ليون" حيث