والأرجح أن بانية هذه القناطر إنما هي زنوبية ملكة تدمر المعروفة باسم زبيدة أيضا ولها آثار كثيرة من مثل ذلك تدعى الزبيدية غالبا نسبت إليها منها بركة في طريق مكة بين العقيق والعذيب بها قصر ومسجد عمرتهما من مالها، ومحلات ببغداد مشهورة أيضا باسمها، ولكثرة مالها وسعة نفقتها ضرب المثل الحريري بقوله: "لو حبتك شيرين بجمالها وزبيدة بمالها"· ومما يحكى عن حلمها وحسن أخلاقها وفهمها أن أحد الشعراء مدحها بقصيدة يقول من جملتها:
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فهم الخدم بضربه وطرده وكانت هي خلف الستارة تسمعه فقالت: دعوه لأنه لم يرد إلا خيرا، ولكنه أخطأ الصواب، فإنه سمع شمالك أندى من يمين غيرك وقفاك أحسن من وجه سواك فظن أن الذي ذهب إليه من ذلك القبيل أعطوه ما أمل، ونبهوه على ما أهمل· وأخبارها كثيرة منها: أنه حصل جفاء بينها وبين المأمون يوما فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره بأن يقول أبياتا تعطفه عليها فقال:
ألا إن ريب الدهر يدني ويبعد ... ويؤنس الآلاف طورا ويفقد
أصيبت بريب الدهر مني يدعلت ... فسلمت للأقدار والله أحمد
وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد
إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمد
فلما سمع المأمون هذه الأبيات حسن موقعها عنده وأحسن إليها وبكى وقام من وقته إليها، وأكب عليها وقبلت يديه وقال لها: ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لم يكن إغفاله؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها· قال الحسن بن إبراهيم بن رباح: كان مخارق المغني يهوى جارية لأم جعفر يقال لها: نهار ويستر ذلك عن مولاتها حتى بلغها ذلك فأقصته ومنعته عن المرور ببابها، وكان بها كلفا، فلما بلغه الخبر أن أم جعفر علمت حبهما قطعتها وتجافاها إجلالا لأم جعفر وطمعا في السلو عنها، وبقي على ذلك حتى ضاق ذرعه وبينما هو ذات ليلة راكب في زلال، وقد انصرف من دار المأمون وأم جعفر وكان يشرف على دجلة إذ جاز دارها فرأى الشمع يزهر فيها، ولما صار بمسمع منها ومرأى اندفع يغني:
إن يمنعوني ممري قرب دارهم ... فسوف أنظر من بعد إلى الدار
سيما الهوى اشتهرت حتى عرفت بها ... أني محب وما بالحب من عار
ما ضر جيرانكم والله يصلحهم ... لولا شقائي إقبالي وإدباري
لا يقدرون على منعي ولو جهدوا ... إذا مررت وتسليمي بأشعاري
فقالت أم جعفر: مخارق والله ردوه فصاحوا به قدم، فقدم، وأمره الخدم بالصعود فصعد، وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها النبيذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنينه، ثم ضربت عليه فغنى وكان أول ما غنى به:
أغيب عنك بود ما يغيره ... نأي المحب ولا صرف من الزمن
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهم والحزن