أنا وأختا لي من مصر، فقدم بنا المدينة فبعث إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط ولا والدا أبر منها، فلم نزل في حجرها ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن.
فلما دخل عليهما تكلمت فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه فما رأيت متكلما ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت: يا أخي، إني لأم أزل أراك معرضا عني منذ قبضت هذين البنيين منك ووالله ما قبضتهما تطاولا عليك ولا تهمة لك فيهما ولا شيء تكره ولكنك كنت رجلا ذا نساء وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئا فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن به من قبيح أمر الصبيان، فكنت ألطف لذلك وأحق لولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبا وعرفا ما يأتيان فها هما هذان، فضمهما إليك وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك صبية صغارا في حجر أخي، فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم، وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله.
ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدا من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها: زينب، فقال اصنعي بيني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه فغاب شهرا ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال: ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بني سمانا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون فخلا بالصبيان، فقال: كيف كانت زينب تصنع بكم؟ قالوا: سيئة ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن وأروه قدحا صغيرا، فغضب على امرأته غضبا شديدا وتركها حتى إذا راح راعيا إبله قال لهما: اذهبا فأنتما وإبلكما لبني معدان فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجابا فقال: والله لا تذوقين منها صبوحا ولا غبوقاً أبداً وقال في ذلك:
لججنا ولجت هذه في التغضب ... ولط الحجاب بيننا والتجنب
وخطت بفردي إثمد جفن عينها ... لتقتلني وشد ما حب زينب
تلوم على مال شفاني مكانه ... فلومي حياتي ما بدا لك واغضبي
رحمت بني معدان إذ قل ما لهم ... وحق لهم مني ورب المحصب
وكان اليتامى لا يسد اختلالهم ... هدايا لهم مني في كل قعب مشعب
فقلت لعبدينا أريحا عليهم ... سأجعل بيتي وبيت آخر مغرب
وقلت خذوها واعلموا أن عمكم ... هو اليوم أولى منكم بالتكسب
عيالي أحق أن ينالوا خصاصة ... وإن يشربوا رنقاً إلى حين مكسب
أحابي بها من لو قصدت لماله ... حريباً لآساني على كل موكب
أخي والذي إن أدعه لعظيمة ... يجبني وإن أغضب إلى السيف يغضب
قالت عائشة: فلما بلغ زينب هذا الشعر خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة، فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانيا فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له: إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقي منه أذى وانتشر خبر حجية بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر فمدحه بأبياته الآتي أولها: (إن الزبير بن عوام تداركني) ثم انصرف من عنده متوجها إلى بلده آيسا من زينب كئيبا حزينا، فقال في ذلك:
تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب ... وكيف تصابي المرء والرأس أشيب