فلو اجتهدت الهيئة الرجلية في حسن سلوكهن بالتربية، وجذبتهن بشواهد المدينة إلى طرف الإطلاع لتتوجت تلك الغانيات من تلقائها بيواقيت المعلومية، وتقلدت بلآلئ التفقه، وكلما شبت ألفت خطواتها في طرق الإدراك، وأدركت مزية حليها الأصيل فزادته جلاء، وفطنت بغلاء قيمته فأوقرته بهاء وسناء، واستغنت بلمعة شرفه عن أرفع جوهر قماش، ولو كان ملبسها ثوبا من الشاش:
إن العلوم لأصل الفخر جوهرة ... يسمو بها قدر الوضيع ويشرف
فوجودها في درج مهجة فاضل ... من حازها بين الآنام مشرف
فأستوهبكم العفو يا أربا العقول عما سأقول: نحن معاشر المخدرات أدرى منكم بنشأة الأطفال من بنين وبنات، إذ من المعلوم أن الطفل حيثما صار على كف القابلة بادر أولا بالبكاء، ثم هجع برهة لفتوره مما لاقاه من التعب لاسيما إطلاق صوته في الصياح الذي لم يكن سبق له، ثم ينتبه محركا جيده يمينا وشمالا فاتحا فاه لطلب الغذاء، فترضعه أمه، فينام على أثر الشبع، فترى منه بسيمات خفيفة في أثناء نومه، وهذا دليل على أن دنيانا دار هم، ومحل أحزان وغم كثيرة الجفاء قليلة الصفاء، فإذا أخذ الطفل في النمو وبلغ خمسة أشهر كانت أول فطنته معرفة أمه ثم أبيه، وتناول الشيء حيث هو منها لإيصاله إلى فيه، فلكم التأمل في مبنى هذه الإشارة الخفيفة والعبارة اللطيفة، ثم كلما اشتدت أعصابه وقويت أعضاؤه علا صياحه فتبادره الوالدة بألحان معدة إليه فيصغي لسماع تلك الألحان. وإذا ضاق صدره من ألم عالجته بكل حنان، وحملته ودارت به من مكان إلى مكان فيفرج كربه ويتلطف ألمه، وهو يظن ذلك التلطف والتسكين بقدرتها وتبيت في قلق وضنك من الشفقة عليه فإذا عوفي أتى إليه الوالد بما يبهجه وتقر به عينه حسب قدرته، فإذا كبر وترعرع وطمحت نفسه للشراسة الطفلية اخترعت له أمه ما يليه عن ذلك وخوفته بمخترعات الأسماء منها ما يتخيل به إرهابا، وإذا صاح ذكرته به، وإذا تشيطن نادت به إليه فيسكت الطفل وتارة تذكر له أباه وتوجس به منه شرا فتوقع في قلبه من جهته الرعب فيستعظم قدرته ويكبره في عينه، ويجعل هيبته إنسان قلبه ومركز ذاته.
فيا ليت شعري ماذا يكون من أمر هذه الفقيرة إلى العلوم وهي خاوية الوفاض عما تستحقه إن في ذلك لحكما:
إن المصابيح إن أفعمتها دسما، ... أهدت لوامعها في كل مقتبس
وإن خلا زيتها جفت فتائلها ... أين الضياء لخيط غير منغمس
وكيف تحسن الشفقة الوالدية بإساءة المشفق عليه، فلو عنيت رجالنا معاشر الشرقيين بتربية بناتهم وأجمعت على تلقين العلوم لهن بمقدار شفقتهم لنالت أرفع مجد، وأهنأ جد، ولعوضت تلك الفتيات عن ذلك القلق براحة العرفان، وأوسعت بسواعد معلوميتهن مضيق السلوك إلى ساحة الإذعان، وقامت بواجبات التدبير وهمت بوقاية أساس حليتها من التدمير لأن تخرب الدور بعد انقطاع أهلها طبيعي والطبيعي ليس بضار إنما هدم سقف الشرف بصرصر الجهل مع وجود الديار هو العار بل النار ومن المستغربات أن يفرط الغارس في تمهيد الأصل، ويأسف على اعوجاج الفرع، هو المؤدي به، فلو أروت الرجال غرائسها من قرارة المعرفة والعرفان لا تكأت في ثقل الأحمال على قويم تلك الأفنان، وصعدت بمساعدتهن أعلى الدرج، وتمسكت بأقوى الحجج.
ولكن تعالت هيئتنا هذه في التنمق عن التهذيب بحجة أوهى من بيت العنكبوت وهي أنهن إذا تعلمن الكتابة يعلقن بالهوى ومغازلة السوى بالجوى، وبادرن