الصغيرات لأن الجراكسة بالنظر إلى ما يرون من هذه المعاملات الحسنة يبيعون بناتهم اللاتي يتيتمن بعد وفاة أمهن فينقلنهم بذلك من حضن والدتهن إلى أحضان والدات أخر، يعتنين بخبرهن ويحصلن في جانبهن على منتهى السعادة.
قالت: لا أخفي عنك أن الإيضاحات التي سمعتها منك تخيل لي بالنظر إلى ما سمعته ووعيته قبلا إنني لم آت إلى تركيا وإنما آتيت بطريق الغلط إلى بلاد أخرى.
قلت: إن السبب في ذلك منحصر في كون الأوروبيين الذين يأتون إلى دار السعادة يذهبون توا إلى الفنادق في (بك أوغلي) فيصرفون أوقاتهم بين أهالي هذا القسم من دار السعادة ليس إلا، ويتمكنون إلى حد ما من الوقوف على شؤونهم. وأما جهات إستانبول وإسكدار، داخل البوغاز فلا يعرفون منها إلا الطرق والأرصفة، ولا أكتمك أن صور المعيشة فيها وطرق أصولها وعاداتها لا تنطبق على ما ماثلها في (بك أوغلي) بل ليس بينهما قياس على وجه الإطلاق، وزيادة على ذلك إن الترجمة الذين يتخذونهم بصفة أدلاء لا يعرفون على الحقيقة شيئا مما خرج عن عالم (بك أوغلي) ، ولما كانون مضطرين إلى الإجابة عن الأسئلة التي تلقى عليهم كانوا يتكلمون بما يوافق عقلهم ولا يلائم أفكارهم وبعبارة أوضح إنهم يهرفون بما لا يعرفون، والسواح أيضا يظنون كلامهم صوابا فينزلونه منزلة الحقائق ويسطرونه فيكتب سياحتهم حتى إننا نكاد عند قراءة بعض هذه الكتب نتوهم وهما أنها تبحث في إحدى البلاد التي لا نعرفها.
وفي أثناء ذلك دخلت علينا جارية حبشية، ولما كانت منذ ربيت إلى أن شبت على محبة الزينة والانتظام كانت زينتها التي دخلت علينا بها حسنة جدا، فلما رأتها المدام قالت باستغراب: من تكون هذه؟ أرى حلاها تفوق حسنا وإتقانا على حلي رئيسة الخدم عندكم؟ قلت: إنها جارية قد تربت عندنا منذ الصغر إلى أن كبرت. أما عملها فكثير، فلما حان زمن عتقها عرضنا عليها الحرية فأبت.
قالت: لماذا؟ قلت: أبت ذلك محتجة أنها لن ترى في الحرية ما تراه هنا من الراحة، ولكن نحن قد تركناها مخيرة فيما ترغب أي إننا أعطيناها سندا يحق لها بمقتضاه أن تعتق نفسها بنفسها متى شاءت.
ثم إن المدام نادت الحبشية - المذكورة - وأجلستها على مقربة منها وسألتها بواسطتي لماذا تأبى العتق والحرية فترجمت جواب الحبشية للمدام باللغة الفرنسية كما يأتي: قالت لها: ما فائدتي من الحرية إنني متى رأيت زوجا ملائما لي فحينئذ أعتق نفسي بنفسي، فعندئذ سألتها المدام عن الزوج الذي ترغب فيه وكيف تحب أن يكون.
فأجابتها الحبشية: إنها إذا لم تحصل على زوج يطعمها نظير الطعام الذي تتناوله في بيت سيدها ويكسوها بمثل ما تكتسيه من الألبسة، ولا يحملها أكثر من الخدمة التي تقوم بها في منزل مولاها فلا تتزوج.
وفي أثناء ذلك أطلق مدفع الإفطار فذهبنا إلى غرفة الطعام وجلسنا على المائة. أما المدام بعد أن أمعنت النظر في صينية الإفطار قالت: لقد جرت العادة عندنا أيضا أن يكون على المائدة بعض أشكال متنوعة مما يسمونه عرفا واصطلاحا بمقدمات الطعام أو النقول (هوردور) فينتج من ذلك أن هذه العادة مألوفة عندكم أيضا.
قلت: أجل إنها عادة مخصومة بشهر رمضان ومماثلة لمائدة التي أنزلت على حضرة عيسى - عليه السلام -