للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

بما يحتاج إليه المقام من الإيضاحات، وكانت تتكلم عن هذه الفنون بلذة تفوق لذة العاشق الذي يتحدث بذكر عشيقته وتظهر على سيماها آثار الرقة واللطف بادية فيها دلائل الكياسة والظرف، ولا غرابة في ذلك لأنها إنما كانت تتحدث بذكر العلوم الحكيمة التي كانت تعشقها وبعد هنيهة ألقت نظرها على الشجار الكبيرة وكانت تخمن مقادير أعماره.

فقلت لها: إنني سأريك شجرة معمرة أكثر من أشجار الفستق، ثم أخذتها بيدها حتى وصلت بها إلى شجرة ضخمة وأريتها إياها فتقربت إليها، وبعد أن دققت فيها تدقيقا تاما قالت: أيتها السيدة، إن هاته الشجرة هي أقدم من العثمانيين في الأستانة وهي باقية من زمن الإمبراطورية لأن وصولها إلى هذا الطول يحتاج إلى عدة أعصر، ثم عدنا بعدئذ إلى الكشك فاستأنفت المدام حديثها العلمي وأخذت تلقي علي ضروبا من الحكمة، ثم قالت: أخشى أن أكون أورثت لك مللا بكلامي في هذا الموضوع، ولكن ما حيلتي وأنا أرى في مثل هذه المحاورات لذة مزيدة.

قلت: ماذا تقولين أيتها المدام إنني كثيرا ما كنت أود أن أبين شكري لما استفدته في هذه الليلة من ألفاظك البليغة وعلومك العالية إلا أنني خشية من قطع الحديث عليك توقفت عن تأدية الشكر، بل لم أتجرأ أن أبديه فانا أهنئك بهذه المنزلة العلية، وأشكر لك عنايتك فقد استفدت بآدابك كثيرا.

قالت: أنا أطوف الجهات وأذهب إلى المراقص وليالي الفرح والمسرات، ولا أحب الخروج عن دائرة العادات لكن لا بنية لإظهار زينتي وعرض نفسي على الأنظار كما تفعل أكثر النساء، ولا أكتسي بالألبسة الحريرية الرفيعة الأثمان بقصد العظمة والافتخار.

وإنما ألبسها لأجل أن يلتذ سمعي بصدى اهتزاز أمواجها وخشيشها في الهواء متخذة ذلك بمثابة اختبار لدروس الحكمة التي تلقيتها.

ماذا أقول عن أولئك الناس الذين يدخلون إلى قاعات المراقص فتأخذهم نشأة الحظ والسرور من ضياء القناديل والشموع المتلألئة فيها ومن لمعان الثريات وأنوارها المنعكسة ولكنهم لا يعلمون شيئا من أسباب هذا الحظ ولا يفقهون ماهية تلك الأشياء التي تبعهم على هاتيك المسرات.

لعمري إنهم لو أحاطوا علما بها لتمثلت لهم فيها حكمة الله بأجلى بيان ولازدادوا اندهاشا بقدرته وقوته التي حيرت بني الإنسان، ولانشغلوا بذكره وتسبيحه أكثر من اشتغالهم بالملاهي نعم، إنني أرى فرقا بين الحجارة الماسية التي أصفها وبين حجارة الثريات العلوية وعندي أن هذا الفرق إنما هو ناشئ عن الحجارة الماسية بواسطة انعكاس ضياء القناديل والشموع عليها تمثل للعيان الألوان السبع الأصلية بمنتهى الرقة واللطف والظرف ما لا يوجد في الحجارة البلورية.

ويشهد الله أنني لا أنظر إلى النساء في تلك الليالي نظرة الحاسدة لجمالهن الباحثة عن قصورهن الراغبة في كشف عيوبهن بل ربما كنت أدقق في أكثرهن جمالا وفي أخلاق أوار الفتيات المعصومات لأنقش هذا الجمال وهاته الأطوار في مخيلتي واتخذ الخيال الذي أرسمه قاعدة أتصورها في كل وقت، وإنني أدخل إلى قاعات [الميس] في المراقص واتفرج على الألعاب، ولكن لا لأحد الذين يربحون ولا لتأخذني الشفقة على من يخسرون لأنهم إنما يخسرون أموالهم بطيبة خاطر منهم بل أدخلها لأنظر مع التعجب تلاعب هذا المعدن الأصفر بالألباب، واستهزاءه بأولئك الذين ينفقونه جزافا على مذابح شهواتهم كأن لا قيمة له مع أنهم لم يجمعوه إلا بش الأنفس لم يجمعونه إلا بعرق الجبين لم يجمعونه إلا بالمتاعب والمشقات التي تقرض العظم قبل اللحم لم يجمعونه إلا بإهراق الدماء

<<  <   >  >>