للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

فهم يلعبون به، لكن بعد أن يلعب بألبابهم وأرواحهم وشرفهم، ألي من موجبات الدهشة والاستغراب أن أولئك الذين يتلفون أنفسهم في سبيل الحصول على واحد من هذا المعدن يستبدلون تعبهم ويعتاضون عن مشقاتهم بساعة من الحظ ما من شيء حري بالفرجة أكثر من مناظر الجمعية في المراقص وليالي الأفراح والتدقيق بنظر الأفراد المجتمعين الذي يتبادله كل منهم بل ما من لذة تضاهي لذة مشاهدة الأنظار التي يتسارقها الفتيان العشاق الذين يرهبون من آبائهم، ويتحببون أمهاتهم، ويتضايقون في الازدحام فإن العيون وهي منافذ القلوب تغني عن لسان المقال.

إما إذا اجتمع الجمال في العيون فإن الكلمات التي ترسلها إلى الأفهام لتسمو وتعلو فبولا على الألفاظ التي تخرج من بين الأسنان الدرية والشفاه المرجانية، إذ أن الكلمات التي تصدر من الفم لا تكون بجملتها صحيحة وجوابا وغنما تصدر موزونة مموهة بالكذب ولكن العيون البعيدة عن التمويه منزهة عن التصنع والتقليد فبينا يتكلم الفم بالمحال إذ تظهر الحقيقة من مجرد النظر على العينين. نعم، إنه لا حاجة للسؤال في مثل هذه الجمعية عن أربا الدسائس والكذبة والمنافقين فإن العيون تكشف الخفايا وتشير إلى كلام المحبين والأعداء والوالدين والوالدات والأولاد، إن حماية الآباء وشفقة الأمهات وهيام العشاق ومحبة الأصدقاء وغرض الأعداء كل ذلك يعلم من العينين والعيون تطلع تمام الاطلاع على جملة أشياء لا يستطيع الإنسان أن يسأل عنها بلسانه فالعيون ترجمان القلب.

فلما وصلت المدام إلى هذا الحد من البيان التزمت جانب الصمت، ثم وضعت مرفقها على النافذة وأسندت رأسها بيدها كأنما كانت تتناجي الأرواح، ومع أنها قطعت حديثها كنت أصغي إليها كأنها لا تزال تتكلم وبعبارة أقرب للحقيقة إن أذني كانتا راغبتين في الاشتغال بعكس خيال هاتيك الألفاظ الدرية وكأنهما لا تريدان أن تبعدا عن عين تصورهما ذاك الخيال الفتان، وأن تغلقا دون استماع خطبتها المملوءة حكمة وأدابا. ليس أن ما تجملت به هاته العالمة العالية الأخلاق من الحسن والظرف إنما هو صحيفة جميلة لكتاب الحكمة الدال على حكمة وقدرة الخالق القادر الحكيم، أما أنا فقد توغلت في مطالعة تلك الصحيفة التي فتحت أمامي أن البعض إذا فهموا أن في أرباب الجمال قصورا لم ينظر بالكلية فبعد، أن يتفكروا مليا بهذا القصور الذي لم تعرف ماهيته يتمكنون من الوصول إلى إدراكه بما آتاهم الله من المعرفة التي هي سر من أسرار حكمته المستورة عنا، وهكذا المدام فإن الخالق قد حباها بنعمته ولطفه ولم يحرمها من هاته الجاذبة التي تسترق الألباب.

أليست تلك الجاذبة هي التي تجعل القبيح محبوبا كالجميل، ولكن ما هو تعريف هذه الجاذبة؟ لعمري إنها لا تظهر للعيان ولا تمثل إلا بالأذهان ليس لها شكل معروف ولا جسم موصوف، فالبصيرة تدركها ولا تنظرها الأبصار وتعشقها القلوب قبل الأفكار، وكما أنها بادية في الوجه والهيئات، فهي أبدا ممثلة في الكلمات ظاهرة في الأصوات، أما لطافة كلمات هذه المدام وحلاوة صوتها فإنها متناسبة مع ملاحة وجهها، ولأجل ذلك كانت تلفظ كلماتها اللطيفة بصوت رقيق ولجهة مؤثرة تفوق رقة ولطافة الأصوات الجميلة عند نشيد الأشعار، وكانت الجهة المعراة من عنقها ويديها مغطاة بنسيج أسود يسترسل فوق فرعها فكانت تمثل الضياء المنعكس من سماء ذلك الليل أعني أنها تمثل الألوان الصافية الزرقاء التي تبدو من السماء في خلال احتجابها بالغيوم، وكان جسمها الأبيض الشفاف يظهر من تحت النسيج الأسود كأنه صفائح

<<  <   >  >>