فرنسا باسم فرنسيس الثاني, ثم مات عنها بعد سنة ونصف فعادت إلى بلادها حزينة, وهناك ودعت فرنسا بأبيات هي غاية في الرشاقة واللطف تعريبها ما يأتي. "وداعا يا فرنسا الأنيقة يا بلادي التي رشحت صباي والتي فيها مشتهاي, وداعاً يا أمي الغراء في مملكة العز والصفاء إن الفلك الذي فصلني عنك لم يفصل سوى شطري, وأما الشطر الآخر وهو ملك سأتركه في مغناك ذريعة لذكراك".
وكان تغاليها في الاستمساك بالمذهب اللاتيني الذي كان استبدله قومها بمذهب لوثير جعلها بغيضة لدى الأهليين, فرأت أن تتزلف إليهم بزواجها بابن عمها "هنري" الذي لم يكن له من مزية سوى بسطة في جسمه ومسحة في جمال وجهه, فزفت عليه سنة ١٥٦٥ م وكان لئيماً غيوراً فاتهمها بحب كاتم أسرارها "داود بيز يوالا يتالي" الذي كان جميلاً فتاناً وموسيقياً شهيراً, فهجم عليه ليلة من باب خفي في قصرها, ولما رآه يعزف أمامها اشتعل حسداً وغيرة, فقتله غيلة عند الباب الخارجي.
وفي سنة ١٥٦٧ م هلك "هنري" بكيفية تجلب الشك في أمر موته, فاتهمت به, وعقيب ثلاثة أشهر تزوجت بلا تدبر في العواقب بالكونت بوتويل الذي قيل عنه إنه المجهز بأمرها على زوجها, فهاج فعلها هذا القوم فاتهموها بالخيانة والفاحشة, وزجوها في معقل "لوس ليفان" وساموها جحد مذهبها علناً فأبت ولبثت سجينة حيثما تمخضت عن ولدها "جمس الأول" الذي وحد مملكتي "سكوتلاندا" والإنكليز, ثم حاولت الفرار فتدلت من شرافة عالية ونجت بنوع عجيب, وكتبت إذ بئست من الملك مستجيرة بابنة عمها الملكة "اليصابات", وذلك سنة ١٥٧٨ م, فاستقدمتها بأمان ولما رأت ما أوتيت من محاسن الذات والصفات أضمرت لها شراً وحسداً.
ثم افترت عليها أموراً منها أنها قتلت زوجها فأودعتها سجناً ضيقاً مكثت فيه ١٨ عاماً اتخذت في خلالها وسائل جمة للخلاص فلم تفلح, ومن تلا نبأ سجنها وما لقيت فيه من الضر والنكد لا يكاد يملك عبراته حزناً ووجداً, ولو كان فؤاده حجراً صلداً, ولم يكف "أليصابات" ذلك حتى اتهمتها ظلماً ولؤماً بأنها عاونت فريقاً من أهل مذهبها على إهلاكها, فخفرت ذمتها وحكمت عليها بالموت.
ثم أمرت الأمير "بيل" وكان من أشد الناس عداوة لماري بأن يزورها في السجن وينذرها بوشك القتل, فسار مع فريق من الأمراء وأبلغها الرسالة بلسان أمر من الصبر وفؤاد أقصى من الصخر, فأجابته متجلدة: إني لست من رعية ابنة عمي فكيف تأمر بقتلي وإذا كان رضاها بموتي فأهلاً به إلا أن نفساً لا تسمح لجسم بأن يتحمل ضربة جلاد فهو إذن غير جدير بنعيم الملك الجواد. ثم دعت قسيسها وكانوا قد حالوا بينهما فقال لها بعض النبلاء: لو فوضت أسقفاً لوتيريا لكان أقرب للتقوى. فأبت وكان أمير "كنت" متحمساً في البروتستانية فقال: إن حياتك لدينا موت وموتك حياة لنا.
ولما انصرفوا أمرت بالطعام وتناولت قليلاً منه على عادتها وحانت منها لفتة فرأت خدامها يبكون. فقالت لهم: كفوا يا أخوتي وافرحوا بانطلاقي من هذا العالم عالم الشقاء, ثم شربت بعد العشاء على أسمائهم رجالاً ونساء فشربوا معها ركعاً وقد مزجوا شرابهم من عيونهم بماء والتمسوا عفوها فعفت عنهم واستعفتهم عنها ثم كتبت وصيتها ووزعت بينهم حلاها وألبستها, وكتبت إلى ملك فرنسا رسائل وصاة في حق جميع حاشيتها ثم تودعت من النوم بالغرار, وأحيت سائر ليلها بالتهجد والاستغفار.
ولما ألقت الغزالة لعابها جاء أمر في طلابها وكان النهار صاحياً, ووجه السماء ضاحكاً ضاحياً, فلبست أبهى ثيابها وأسدلت عليها رداء من كتان, وخرجت على الفور وسجتها في بنانها, وعلى محياها الصبيح الوقور سمات الخفر والتجلد وكان المجد والإجلال يسيران في خدمتها.
ولما بلغت مقتلها استقبلها الأعيان والأمراء وبينهم خادمها