"ملفن" يشرق بالبكاء فقالت له: رويدك يا "ملفن" وكفاك نحيباً فإنك عما قليل ترى ماري معتوقة من قيد أحزنها فقل لأهل سكوتلاندة إني أموت كاتوليكية حافظة لفرنسا وسكوتلانده عهدي. إلهي اغفر لمن ظمئ إلى دمي كما تظمأ الإبل إلى الماء. إلهي إنك تعلم سرائري وخفايا ضمائري فبرئني عند ابني اليتيم أو ألهمه أن حياتي لم تدنس حرمته, ولم تشن مملكته. إلهي وفقه إلى أن ينهج مع ملكة الإنكليز منهج صدق ووداد إنك لغفور سميع جواد.
ثم ذرفت مدامعها ككريات من الماس تقذف من لجين وتدحرج على صفحتي لجين, وودعت خادمها الوداع الأخير فاندفع في البكاء حتى تولاه الإغماء, ثم التفتت بجلالها إلى الأمراء ورغبت إليهم أن يساعدوا خدمتها على إحراز مالهم من وصيتها, وأن يمكنوهم من القيام حولها ساعة قتلها فتجافي أمير "كنت" عن مطلبها الثاني لوساوس شيطانية فقالت له: لا تخف دركاً من هذه النعاج الوديعة الوريقة التي لا مأرب لها إلا التملي مني بهذا الوداع الأليم, وعندي أن حبيبتي لا تمنعني ذلك كيف لا وأنا ملكة أيضاً وابنة ملك, وزوجة ملك, وأقرب الناس إليها والله يعلم أنني أقول ذلك بقلب سليم وضمير مستقيم, فلبوها حينئذٍ وسار أمامها الأمراء وخادمها الخاص وراءها رافع رداءها حتى إذا بلغوا المذبح استوت على أريكة سوداء فتلى أمر قتلها فسمعته بإصغاء.
ثم حاول الأسافقة أن يميلوا بها عن مذهبها, فأجابتهم: إني أموت على ما ولدت. فطلب الأمراء أن يشتركوا معها في الصلاة والدعاء فقالت: لكم دينكم ولي دين.
ثم جثت وأخذت تصلي باللاتينية فتابعها خدمتها, ولما فرغت كررت الاستغفار عن الملكة والدعاء لابنها فتقدم الجلاد مستسمحاً فأجابته مسامحة, ثم نزع عنها خدامها رداءها الأعلى باكيات نائحات فقابلتهن بالصبر وكف العبرات, ثم غطت وجهها بقناع أسود واستوت على الخشبة قائلة: إلهي استودعتك روحي واستقبلت الموت.
بعزمة بعثتها همة زحل ... من دونها بمكان الأرض من زحل
فتقدم الجلاد وقطع هامتها فهتف الأسقف: هكذا لتهلك أعداؤنا. ثم حنطت جثتها ودفنت باحتفال في كنيسة "بيتير بورغ" وصنع لها في باريس مأتم حافل, وكان لها من العمر يوم قتلها أربع وأربعون سنة وشهران, وما زال رسمها محفوظاً فوق سريرها في "أيدنبورغ" قاعدة سكوتلاندة ولها رسم آخر في محبسها الأول محفوظاً مع تاج الملك والسيف والصولجان, ووسام وخاتم ياقوتي فصه أكبر من البندقية, وقد ألف مشاهير الكتبة بحياة "ماري" وبراءتها روايات كثيرة شعراً ونثراً تركوها بهدها للناس أمثولة وذكرى.
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
وكتبت إلى "أليصابات" وهي في سجنها تقول من "ماري ستوارث" إلى "أليصابات" ملكة إنكلترا لقد برح الخفاء أيتها السيدة وظهرت عقبة من يتكل على عدلك في حفظ الذمام وكرم الأخلاق وقد تبين لي أن المستجير بك عند البلاء كالمستجير بالنار من الرمضاء. فعلام لا تقابلنني ولأي ذنب تلقينني في السجن وقد كنت آمل أن أرتع عندك في القصور المنيعة, ولماذا لم أر منك إلا الضغينة والبغضاء عوضاً عن المودة والولاء. وهل السجون والقبور لمثل "ماري ستوارث" حتى يحكم عليها مجلسك بها. وعلى أي ذنب بنوا حكمهم ووافقتيهم عليه يا ترى أساءك مني أن معتقدي يخالف معتقدك وإني لست لبنة كنيستك؟ أو تعدين هذا ذنباً سياسياً حتى انقضت علي من أجله منتقمة متشفية على حين سلمت نفسي إليك, وألقيت أمري بين يديك وقلت: خذوها فغلوها. آه لقد قضى أهل المروءة فواحر قلباه.
وآخر ما أقوله أيتها السيدة: إنك إذا كنت لا تنظرين في سوء