وغناء وأدباً وكانت تقول شعراً مستحسناً من مثلها, وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت عنده على جواريه أجمع, وهي أم أولاده كلهم, فولدت له صفية -وتكنى أم العباس- ثم ولدت محمداً ويعرف بأبي عبد الله, ثم ولدت بعده ابناً يقال له: هارون ويعرف بأبي جعفر, سماه المأمون وكناه, بهذا الاسم والكنية قال: ولما توفي علي بن هشام عتقت.
وكان المأمون يبعث إليها فتجيبه فتغنيه, فلما خرج المعتصم على "سر من رأى" أرسل إليها فاستخلصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد على ولدها فتزورهم, ثم ضم غليها قلم وهي جارية لعلي بن هشام.
قال الحسن بن إبراهيم بن رياح: سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة. قال إسحاق قلت: ثم من؟ قال: علوية. قلت: ثم من؟ قال: متيم. قلت: ثم من؟ قال: أنا, فعجبت من تقديمه متيم على نفسه, فقال: الحق أحق أن يتبع.
وكانت متيم جالسة بين يدي المعتصم ذات يوم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم:
لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدوا إذا ما النجم لاحت لواحقه
فأشار غليها إبراهيم أن تعيده فقالت ميتم للمعتصم: يا سيدي, إبراهيم يستعيدني الصوت وكأني أراه يريد أن يأخذه. فقال: لا تعيديه.
فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضراً مجلس المعتصم ومتيم غائبة, فانصرف إبراهيم بعد حين على منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق فسمعها تغني هذا الصوت, فضرب باب المنظرة بمقرعة.
وقال: قد أخذناه بلا حمدك, وكان المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجباً, فدفعه عن ذلك ولم يكن له منها ولد وقتئذٍ فلما ألح المأمون في طلبها حرص على أن تعلق منه حتى حملت ويئس المأمون منها فيقال: إن ذلك كان سبباً لغضبه عليه حتى قتله.
وقال علي بن محمد الهشامي: إنه أهدى على علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجباً وكان إسحاق يرغب فيه رغبة شديدة وعرض لعلي يطلبه مراراً فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوماً يعقب صنعة متيم في هذا الصوت.
فلا زلن حسرى ظلعاً كم حملنها ... إلى بلد ناء قليل إلا صادق
فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له: بكم تشتري مني هذا الصوت؟ فقال علي بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك! قال: قد أخذته الساعة وأدعيه, فقول من يصدق قولي أو قولك فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن تهبني البرذون وتحملني عليه وأما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته قال: علي يؤخذ قولك ويترك قولي لا والله ما أظن هذا ولا اراه يا غلام قدم هذا البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله لك فيه.
وكلم ابن هشام متيم يوماً في كلام فأجابته جواباً لم يرضه, فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتناقلت عن الخروج غليه فكتب إليها:
فليت يدي بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكف وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التنادي بعائد
فصنعت له لحناً وخرجت غليه وصالحته وغنته الصوت. وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فقال الدلال: يدعو إلى الملال, ورب هجر دعا إلى صبر, وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه, ولقد صدق