إني إليك بما وعدت لناظر ... نظر الفقير على الغني المكثر
يعد الديون وليس ينجز موعدا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر
ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم يمطر
قلبي نصحت له فرد نصيحتي ... فمتى هجرتيه فمنه تكثري
والتفت بجميل بعد طول تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا ثم قالت له: ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت القائل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فأطرق طويلا وهو يبكي وينتحب ثم رفع رأسه وقال: بل أنا القائل:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها
فقالت: ويحك, ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا؟ وسعت جارية من جواري بثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين سيفهما, فرأياه جالسا إليها يحدثها ويشكو إليها وجده بها وشوقه لها, ثم قال لها: يا بثينة, أرأيت ودي لك وشغفي بك ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه, ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي بعدها أبدا فضحك من كلامها وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه, ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي أو هجرتك إن استطعت على الأبد أو ما سمعت قولي:
إني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوئله
فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما. وقال جميل يوما لأحد أترابه: هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة, فمضى معه حتى كمن له في الوادي وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه غليه فمضى به غليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما جن الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته وهي باركة قالت له بثينة ادن مني يا جميل فدنا منها وقال:
إن المنازل هيجت أطرابي ... واستعجمت آياتها بجوابي
فترى تلوح بذي اللجين كأنها ... أنضاء رسم أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت ... مني الدموع لفرقة الأحباب
وذكرت عصرا يا بثينة شاقني ... وذكرت أيامي وشرخ شبابي
وقال كثير: لقيني جميل مرة فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من عند ابي الحبيبة -أعني بثينة- فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة -أعني عزة- فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة. فقال: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع. فقال: لا بد من ذلك. فقلت: فمتى عهدك بها؟ قال: في أول العيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها, فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به تسترا, وعرفتني الجارية فأخبرتها, فتركت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس, وسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون. وما وجدت أحدا غيرك يا كثير حتى أرسله غليها فقال له كثير: فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها.
قال: ذلك الصواب: فأرسله إليها فذهب, وقال: انتظرني حتى أعود, ثم سار حتى أناخ بهم فقال له أبوها: