ما ردك يا كثير؟ قال: ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هاتها. قال كثير: فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... إليك رسولا والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا ... وأن تأمريني بالذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الروم والثوب يغسل
فضربت بثينة صدرها وقالت: اخسأ اخسأ، فقال أبوها: مهم يا بثينة؟ قال: كلب يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية، ثم التفتت إلىالجارية وقالت: أبغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونسويها له. فقال كثير: أنا أعجل من ذلك وخرج وراح إلى جميل فأخبره. فقال له جميل: الموعد الدومات بعد أن تنام الناس. وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين، وليلى ونجيا بنات خالتها: إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جملا معه وكانت قد أنست إليهن واطمأنت بهن وكاشفتهن بأسرارها فخرجن معها، وكان جميل وكثير خرجا حتى أتيا الدومات (اسم محل) وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح فكان كثير يقول: ما رأيت عمري مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ولم أدر أيهما كان أفهم. ولما ندر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد الليل كثيب رمل ويتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني ... أهمي وإنني بادي النحول
هبي لي نسمة من ريح بثن ... ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي ... قليلك أو أقل من القليل
فإذا ظهر الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن، إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران فيقلن لها: اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له، واجتمع كثير بجميل وما فقال له: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك:
يقيك جميل كل سء أماله ... لديك حديث أو إليك رسول
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي ... محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي ... هبوب الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة ... ولا زال عنها والخيال يزول
فقال جميل أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
يقول العدا ياعز قد حال دونكم ... شجاع على ظهر الطريق مصمم
فقلت لها والله لو كان دونكم ... جهنم ما راعت فؤادي جهنم
وكيف يروع القلب يا عز رائع ... ووجهك في الظلماء للسفر معلم
وما ظلمتك النفس ياعز في الهوى ... فلا تنقمي حبي فما فيه منقم
قال: فبكيا ليلتهما إلى أن بزغ الصباح، ثم انصرفا وخرج جيمل لزيارة بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أنه لبثينة، أو راعية ليتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأمة حبشية معها قربة واردة على الغدير لتملأها، فكانت عارفة به، ولما تبينها وتبينته سلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق، ويحملها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه وسألها أن تدفعه لها وأخذ عليها موعدا ترجع إليه فيه، ومكث ينتظر رجوعها وذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها