أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها فالتوت عليهم ولم تخبرهم من شيء مما حصل لها مع جميل، فتعللت عليهم فضربوها ضربا مبرحا، ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، وصدف أنه مر بها في تلك الحالة فتيان من بني عذرة فسمعا القصة جميعها وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر فقالا للقوم إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه وكان أهل بثينة أعز بني عذرة فدعوا الأمة وأعطوها الخاتم وأمروها أن توصله إلى بثينة وحذروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلا وقالا تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب، ثم تبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما.
فقال: أما الآن فابعثا إليها من ينذرها فأتياه براعية لهما وقالا له: قل بحاجتك فقال: ادخلي إليها وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها ففهمتها تماما فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدها فلم تبرح من مكانها ومضوا يقتفون أثره فوجدوا ناقته فعرفوا أنه د فاتها وفي ذلك يقول جميل:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما ... على عذبة الأنياب طيبة النشر
ألما بها ثم اشفعا لي وسلما ... عليها سقاها الله من سائغ القطر
وقال:
ابي القلب إلا حب بثنة لم يرد ... سواها وحب القلب بثنة لا يجدي
إذا ما دنت زدت اشتياقا وإن نأت ... جزعت لنأي الدار منها وللبعد
سلي الركب هل عجنا لمغناك مرة ... صدرو المطايا وهي موقرة تخدي
وهل فاضت العين لاشروق بمائها من أجلك حتى أخضل من دمعها بردي
وإني لأستجري لك الطير جاهدا ... لتجري بيمن من لقائك من سعدي
وإني لأستبكي إذا الركب غردوا ... بذكراك أن يحيا بك الركب إذا تحدي
فهل تجزيني أم عمرو بودها ... فإن الذي أخفى بها فوق ما أبدي
وكل محب لم يزد فوق جهده ... وقد زدتها في الحب مني على الجهد
ولما ضاقت برهط بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها: أم منظور فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتمنوني عليها فقال: أما والله لا أضرنك فقالت: المضرة والله في أن أريكها فخرج من عندها وهو يقول:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت ... بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا استلابها خرسا جبابرها ... إلي من ساقط الأوراق مستور
قال فما كان غلا قليل حتى انتهى إلهم هذان البيتان فتعلقوا بأم منظور فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها وعاقبوها على ذلك هكذا رواه صاحب الأغاني عن الأغاني عن الزبير بن بكار.
وفي رواية أخرى أن رجلا أنشد مصعب بن الزبير البيت الأول من البيتين المذكورين فقال مصعب: لوددت أني عرفت كيف جلتها فقيل له: إن أم منظور هذه حية فكتب في حملها غليه مكرمة فحملت إليه فقال لها: أخبريني عن قول جميل.
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت ... بالحجر يوم جلتها أم منظور
كيف كانت هذه الجلوة؟ قالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح في وسطها تفاحة وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئا من الجلوة ومر بنا جميل راكبا على ناقته فجعل ينظر غليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا