للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتغديت فِي ذَلِك الْيَوْم مَعَ البطريق، وَكَانَ من عادتي أَن أنصرف من عِنْده بعد غدائي إِلَى إخْوَانِي من الْمُسلمين، فنتحدث، ونأنس، ونقرأ الْقُرْآن، ونجمع الصَّلَوَات، ونتذاكر الْفَرَائِض، وَيسمع بَعْضنَا من بعض مَا حفظ من الْعلم وَغَيره، فَانْصَرَفت ذَلِك الْيَوْم بعد غدائي إِلَى الْموضع الَّذِي كنت أصير إِلَيْهِ، وَفِيه السلمون، فَلم أر فِيهِ أحدا إِلَّا الْكَفَرَة، فَضَاقَ صَدْرِي ضيقا تمنيت مَعَه أَنِّي كنت مَعَ أَصْحَابِي، فَبت بليلة صعبة لم أطْعم فِيهَا الغمض، وأصبحت أكسف خلق الله بَالا، وأسوأهم حَالا.

وَصَارَ إِلَيّ الرَّسُول فِي وَقت الْغَدَاء، فصرت إِلَيْهِ، فَتبين الْغم فِي أسرة وَجْهي، ومددت يَدي إِلَى الطَّعَام، فَرَأى مد يَدي إِلَيْهِ، خلاف مدي الَّذِي كَانَ يعرف، فَضَحِك، ثمَّ قَالَ: أحسبك اغتممت لفراق أَصْحَابك؟ فأعلمته أَنه صدق، وَسَأَلته: هَل عِنْده حِيلَة فِي ردهم إِلَى يَده.

فَقَالَ: إِن الْملك لم ير أَن ينْقل أَصْحَابك من يَدي إِلَى يَد غَيْرِي إِلَّا ليغمهم بِمَا يفعل، وَمن الْمحَال أَن يدع تَدْبيره فِي الْإِضْرَار بهم، لميلي إِلَيْك ومحبتي لَك، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَاب حِيلَة، فَسَأَلته أَن يسْأَل الْملك إخراجي عَن يَده، وضمي إِلَى أَصْحَابِي أكون مَعَهم حَيْثُ كَانُوا.

فَقَالَ: وَلَا فِي هَذَا أَيْضا حِيلَة؛ لِأَنِّي لَا أستجيز أَن أنقلك من سَعَة إِلَى ضيق، وَمن كَرَامَة إِلَى هوان، وَمن نعْمَة إِلَى شقاء.

فَلَمَّا قَالَ ذَلِك، تبين فِي الانكسار وَغَلَبَة الْغم، فَقَالَ لي: بلغ بك الْغم إِلَى النِّهَايَة؟ فَأَخْبَرته: أَنه قد بلغ بِي الْغم، أَن اخْتَرْت الْمَوْت على الْحَيَاة، لعلمي

<<  <  ج: ص:  >  >>