لم يقع في قلبي أن يُحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر).
أرادت بقولها:(في قلبي) في اعتقادي وظني. وقد سمى العلماء أفعال الظن والعلم أفعال القلوب، وإذا لم يقع في ظنها محبة الناس من يقوم بعد رسول الله وقع لا محالة في ظنها ضد ذلك، وهو أن يكره الناس من يقوم بعده. وقد بينت ذلك بقولها:«ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد .... » إلخ.
وقولها:«إلا تشاءم الناس به» فيتنازع ذلك المستثنى كل من (أرى) و (يقوم) المنفيين.
وقولها:«تشاءم» جملة في موضع الحال تفرغ لها الفعلان السابقان. وقد تأكدت الجملة الأولى بالثانية وحصل إيجاز دل عليه الكلام. فالتقدير: ولا كنت أرى أن أحدًا يقوم مقامه إلا تشاءم الناس به، لن يقدم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فحصل التأكيد مع إيجاز لطيف.
وقولها:«فأردت أن يعدل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر» ثبت في الرواية بنصب لفظ «رسول». وكان الوجه أن يكون مجرورًا بالياء؛ لأن فعل (عدل)، الذي هو بمعنى أعرض، فعل قاصر يتعدى إلى مفعوله المعرض عنه بـ (عن) وإلى غيره بما يناسب من حروف الجر بالأولى. فلما لم يجر بالباء تعين أنه منصوب بنزع الخافض.
ومرادها بالتشاؤم أن يكون ذلك الرجل ذكرى لحادث محزن تنقبض له النفوس عند رؤيته. وليست تريد الشؤم بالمعنى المراد في الجاهلية، وأن يكون وجود بعض الذوات مجلبة شر لغيره، فإن ذلك من عقائد الجاهلية. وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفيه، ولا يظن بأصحاب رسول الله معاودة اعتقاده. وإنما أرادت أن تجنب أباها هذا الثقل على الناس في ظنها قاطعة النظر عن وقوع رجل آخر في مثل ذلك؛ لأن الذي يدفع عن نفسه بدون تعيين أحد للضرر لا حرج عليه، إذ على غيره أن يجنب نفسه ما يحذره إن كان يحذر شيئًا.
ويفهم من قولها:«إلا أنه لم يقع في قلبي .... » إلخ، أن الأمر تبين على خلاف ما ظنت، فقد تلقى المسلمون المصاب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر وتلقوا خليفته بالرضا والتيمن.