أغبلها موضوعًا واحدًا، وأما العمل الفقهي المتكامل فهو وإن وجد فلا يخلو من معظم السلبيات المتقدمة.
الأمر الثالث: المعركة المشتعلة، والنفرة المصطنعة بين المحدثين والفقهاء:
فقد رأيت كثيرًا من إخواننا من طلاب الحدث ينصرفون عن تلقي علم الفقه، مقبلين على علم السنة المطَّهرة رواية دون دراية، ورأيت جُلَّ طلاب الفقه معرضين عن تلقي علم الحديث ومعرفة أسانيده، وحفظ متونه، مع انكبابهم على كتب المذاهب الفقهية وحفظ مختصراتها، وهذه النفرة كانت واقعة منذ قدم العهد يثيرها كتبةُ الحديث وصغار المتفقهة، لقصر نظرهم، فيتبادلون الغمز واللمز، قال الخطابي (١) -رحمه الله- المتوفى سنة (٣٨٨ هـ): «ورأيت أهل زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا من بناء وعمارة فهو قفر وخراب، ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني من المحلين، والتقارب في المنزلين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه - إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين، فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما كدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يفقهون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.
وأما الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلِّه، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيِّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق