للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع - التي أبدى ابن القيم - رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنا، وأن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبدًا، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.

وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم - رحمه الله تعالى - مختصرة ومبسوطة، فيحسن بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول:

(وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها.

وأسماء الرّب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى

كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحًا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة.

إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

خصائص حَدِّ الزنا (١):

خصَّ الله سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص، وهي:

الأولى: تغليظ العقوبة:

فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم، لكن كونه رجمًا بالحجارة حتى تزهق النفس فليس هذا إلا في عقوبة الزنا للمحصنين، وهذا أشنع القتلات.

والجلد عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود، لكن عقوبة الزاني البكر - وإن كانت بالجلد - إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين: أولاهما: أن الجلد مائة جلدة، وليس في الحدود ما يبلغ هذا حدًّا، والثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير حد الزاني البكر، والله أعلم.


(١) «الحدود والتعزيزات عند ابن القيم» (ص: ١١٤ - ١١٧) بتصرف واختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>