«ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله، ولقد أحسن من قال:
إثبات ضدين معًا في حال
أقبح ما يأتي من المحال
فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه «الموطأ» ولم يجبه إلى ذلك؟
فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في «شرح اختصار علوم الحديث»(ص ٣١) وهو أن الإمام مالك قال: «إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها».
وذلك من تمام علمه وإنصافه، كما قال ابن كثير، رحمه الله تعالى.
فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم.
فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة.
وخلاصته:
أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين.
ذلك هو الفرق من جهة السبب.
وأما الفرق من جهة الأثر فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه،