للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كثير:

قليل الألايا (١) حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأَلِيَّةُ بُرَّتِ

والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان: أن من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وَقْعٌ، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة فيختل ما هو الغرض الأصلي من اليمين، ولذا كُره الحلف في البيع والشراء، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة، محققة للبركة» (٢).

الحلف لا يكون إلا بالله: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (٣).

فدلَّ على أمرين (٤):

الأول: الزجر عن الحلف بغير الله، وإنما خُصَّ في حديث عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو خص لكونه غالبًا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «وكانت قريش تحلف بآبائها» (٥) ويدل على التعميم قوله: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله».

الثاني: أن من حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه، سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم لمعنى غير العبادة كالأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم كالآحاد، أو يستحق التحقير والإذلال كالشياطين وسائر من عُبد من دون الله .. ووجه الدلالة من الخبر أنه لم يحلف بالله، ولا بما يقوم مقام ذلك. اهـ.

فائدة: إذا حَلَف المسلم لأخيه بالله فينبغي أن يصدقه: وإن علم منه ضِدَّه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً سرق، فقال عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذبتُ عيني» (٦).


(١) جمع أليَّة: وهي الحلف والقسم.
(٢) صحيح: أخرجه البخاري (٢٠٨٧)، ومسلم (١٦٠٦).
(٣) صحيح: أخرجه البخاري (٦٦٤٦)، ومسلم (١٦٤٦).
(٤) «فتح الباري» (١١/ ٥٣٣).
(٥) البخاري (٣٨٣٦)، ومسلم (١٦٤٦).
(٦) صحيح: أخرجه البخاري (٣٤٤٤)، ومسلم (٢٣٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>