العمرة) الذي كان يتمتع به أهل العالم جميعا، كما رأى المسلمون أن المكان الذي حرم فيه إيذاء الأعداء أيضا، ولم يتعرض فيه الإنسان لقاتل أبيه أو ابنه، منع فيه بنو إبراهيم من العبادة على سنة الخليل.
كان يتردد إلى بيت الله وأرض الحرم بمرأى من المسلمين عباد اللات ومناة والعزى وذو الخلصة، والساجدون للأحجار والأشجار والتماثيل والنصب، وعباد النجوم وأصحاب التثليث والإلحاد وأتباع الهوى والنفس. ولكن عباد الله الذين جاءوا محرمين ومعهم الهدي منعوا من التقدم إلى الكعبة.
كان المسلمون يواجهون هذا الموقف الصعب إذ جاء إليهم أبو جندل يرسف في قيوده ودقات قلبه تسرع بداخل صدره فذكر أن المشركين حبسوه بإسلامه، فأفلت منهم وجاء إلى المسلمين يطلب الملاذ، ولكن الكفار أصروا على إعادته كشرط لعقد الصلح.
إن مصلحة الأمة المسلمة اقتضت التضحية بحرية فرد منها. وقد سر أبو جندل كثيرا برؤية النبي (ص) وبشارته حتى لم يشق عليه العودة كثيرا. والحاصل أن المسلمين
صاروا في حاجة ماسة إلى كثير من الصبر وضبط النفس والهدوء والحلم، ولم يتيسر لهم ذلك إلا بنزول السكينة الربانية والعناية الإلهية، كان ذلك ابتلاء، ونجح المسلمون فيه ثم وصلوا إلى المدينة، وبعد ذلك بأسبوعين أتى أمر الله بأن يخرج هؤلاء المسلمون أنفسهم لمواجهة يهود خيبر الذين كانوا قد أحكموا تسعة حصون فيها، وكانوا خبراء في استخدام المنجنيق وغيره من آلات الحرب التي لم يعرفها العرب، ولكن المسلمين أبلوا بلاء حسنا في هذه الحرب، وفتحوا الأراضي الواسعة والحصون المحاطة بالخنادق العريضة والجدران الحجرية المتينة، لم يمنعهم شيء مما تحصن به يهود خيبر.
والتنبؤ السابق ذكر للمسلمين الصفتين معا، وأوضح للناس أن تحمل المسلمين لأنواع الظلم والأذى لم يكن عن عجز، بل عن مصابرتهم على الدين الحق، وبذلك تمكنوا من نشر دعوة الإسلام وإعلان الحق أمام الأمم التي كانت تفوقهم في العدد والعدة وتملك كثيرا من الشجاعة والخبرة العسكرية ووسائل الحرب.
لقد قطع النبي (ص) مسافة ٢٥٠ ميلا ووصل إلى حدود مكة ثم اضطر للعودة وهو على بعد خمسة أميال فقط، ولعل الكفار وسائر العرب ظنوا حينئذ أن المسلمين المساكين البائسين كانوا عاجزين أمام قريش.