يعترف المطلع على سر الطبيعة الإنسانية والخبير بإشباع الحاجات الإنسانية بأن الإنسان مدني الطبع.
ولكننا نتعجب إذا رأينا أن عديدا من الأديان جعلت المدنية معارضة للروحانية وعدوة لها.
فحين نرى الأمير غوتم (بوذا) يترك زوجته الشابة ووليده الوحيد نائمين في البيت، ويهرب ليلا إلى الغابة حيث يمارس أنواعا من الرياضات الشاقة فهل نعتقد أن هذا الرجل اليقظ كان خبيرا بطبيعة الإنسان وأنه مدني بطبعه، وحين نرى الويدي (بياس جي) ينفر من العمران عن الأبوين، فهل نقرر بأنه درس واجبات المدنية؟ ونقرأ في الإنجيل الحوار
الذي يذكر الاختصاء في سبيل الله، فهل نرى أن أتباعه نظروا إلى آدم وحواء نظرة تبجيل وتكريم، ونرى ألوفا من الراهبات معرضات عن واجب التناسل في ظل كنيسة روما السماوية، فهل نتصور أنهن حققن أمر الله تعالى بأن يتصل الإنسان مع زوجته بحكم الطبيعة البشرية؟
ونرى في غابات (آريه ورت) ومغارات جبالها وقممها أشخاصا خرجوا من بيوتهم في أواخر حياتهم بأمر من (منوسمرتي) واضطروا في سبيل الرزق إلى الاعتماد على الوسائل المجهولة، وفقدوا أنيسهم في حالة الضعف وتقدم السن والحاجة، فهل نقضي بأن من وجه هذا الأمر المذكور راعى حقيقة التمدن في هذا الأمر؟ ونرى المصلحين والنساك والرهبان والعباد يحلون بعيدين عن العمران ويوقدون النيران، ويرسلون الشعور، ويمارسون الرياضة، فهل نحكم بأنهم يقدمون المثل الأعلى للإنسانية؟ ونرى مئات البنات تزف إلى تمثال حجري في المعابد، ويتم القضاء على النسل تحت هذا الستار المقدس، فهل نقطع بأن هؤلاء المشرعين عرفوا السر الأكبر لتعمير العالم؟
لاشك أن ذلك كله ناتج من التعليم الذي لم يفهم طبيعة الإنسان، ولم يعرف حكمة طبائعه، ولم يشجع العمل بها.