ثم تدبروا كلمة ((وكلنا)) في الآية، إنها تضمنت تنبؤين، الأول: انقياد قلوبهم، والثاني: رؤية النبي (ص) هذا التغير. وقد كان كذلك أي دخلت البلاد التي تقع بين الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض وجبال الشام في الإسلام، وارتفعت أصواتها جميعا بكلمة ((لا إله إلا الله)) تعمل بالتوحيد وأحكام الدين الحنيف.
انظروا سعة التنبؤ وصدقه وكيف تحقق خلال اثتى عشر عاما من نزول الآيات!
[تنبؤ عن الارتداد وعن زيادة عدد المسلمين]
قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}(المائدة: ٥٤).
هذه الآية أخبرت على سبيل التنبؤ أن من المسلمين من يرتد، ثم أخبرت بأن الله تعالى يجعل الأقوام الكبرى محبة للإسلام تعويضا عن النقص العددي الناتج عن الارتداد، ويكون أمرهم مع الله أمر الحب والإخلاص، ومع المؤمنين أمر التواضع واللين، ويعاملون أعداء الدين معاملة العزة والفتح والانتصار والكرامة، ويترفعون عن ثناء الدنيا وهجوها الكاذبين، ويبدون المشجاعة والتضحية في سبيل الحق، وتجلى صدق هذه الآية منذ نزولها إلى الآن وسيتجلى هكذا على مر الأيام إن شاء الله تعالى.
بعد ارتحال النبي (ص) ظهر مسيلمة الكذاب، وتبعه آلاف الناس، وكان ارتدادهم غريبا، فكان مسيلمة وأتباعه يعترفون بنبوة محمد (ص) بطريق خفي، ثم يثبتون النبوة لمسيلمة أيضا.
وقد أقام الله تعالى في قوم مسيلمة نفسها ثمامة بن أثال الحنفي وأمثاله، فقاوموا المرتدين دون مراعاة للقومية أو للقرابة.
وادعى الأسود العنسي النبوة، فأقام الله له فيروز وذازويه الفارسيين صاحبي الفضل والكمال، فكسرا شوكة الأسود وقوته.
وتنبأ أيضا طليحة وسجاح، ولكن ضيق عليهما أقوام منطقتهما وقبائلهما حتى تابا عن الارتداد وأخلصا الطاعة للإسلام ثم لم يقصروا في خدمة الدين الحنيف.
ولما طغى وتجاوز بعض بني أمية أقام الله تعالى أهل خراسان فقضوا على الدولة الأموية وآل أمر المسلمين إلى بني العباس.