للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إكْرَاهٌ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِكْرَاهُ بِالتَّخْوِيفِ بِالْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ كَقَوْلِهِ لَأَضْرِبَنك غَدًا (وَلَا تُشْتَرَطُ) فِي عَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ (التَّوْرِيَةُ بِأَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهَا) ، أَيْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ كَأَنْ يَنْوِيَ بِقَوْلِهِ طَلَّقْت فَاطِمَةَ غَيْرَ زَوْجَتِهِ.

(وَقِيلَ إنْ تَرَكَهَا بِلَا عُذْرٍ) مِنْ جَهْلٍ بِهَا أَوْ دَهْشَةٍ أَصَابَتْهُ لِلْإِكْرَاهِ (وَقَعَ) طَلَاقُهُ لِإِشْعَارِ تَرْكِهَا بِالِاخْتِيَارِ وَرُدَّ بِالْمَنْعِ

(وَمَنْ أَثِمَ بِمَزِيلِ عَقْلِهِ مِنْ شَرَابٍ، أَوْ دَوَاءٍ نَفَذَ طَلَاقُهُ، وَتَصَرُّفُهُ لَهُ وَعَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا) كَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ، (عَلَى الْمَذْهَبِ وَفِي قَوْلٍ لَا) يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ وَقَصْدٌ صَحِيحٌ.

وَيُجَابُ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْفَهْمِ وَالْقَصْدِ، يَكْفِي فِي نُفُوذِ التَّصَرُّفِ، إذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْغَزَالِيِّ (وَقِيلَ) يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ (عَلَيْهِ) كَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالضَّمَانِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لِيَنْزَجِرَ دُونَ تَصَرُّفٍ لَهُ كَالنِّكَاحِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ وَنُقِلَ عَنْهُ فِي ظِهَارِهِ قَوْلَانِ عَنْ الْقَدِيمِ طَرْدًا فِي غَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَفِي تَصَرُّفَاتِ مَنْ شَرِبَ دَوَاءً مُجَنِّنًا لِغَيْرِ تَدَاوٍ وَنَفَى بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْمَنْعِ، وَطَرَدَ الْآخَرَ فِي جِنْسِ الْمَنْصُوصِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي عَلَيْهِمَا الْمُصَنِّفُ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ أَثِمَ عَمَّنْ لَمْ يَأْثَمْ بِمَا ذَكَرَ، كَمَنْ أَجَّرَ مُسْكِرًا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ أَوْ تَنَاوَلَ دَوَاءً مُجَنِّنًا بِقَصْدِ التَّدَاوِي، وَيُرْجَعُ فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إلَى الْعُرْفِ، فَإِذَا انْتَهَى تَغَيَّرَ الشَّارِبُ إلَى حَالَةٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّكْرَانِ عُرْفًا، فَهُوَ مَحِلُّ الْكَلَامِ.

وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ وَحَقَّقَ الْإِمَامُ، فَقَالَ شَارِبُ الْخَمْرِ تَعْتَرِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إحْدَاهَا هِزَّةٌ وَنَشَاطٌ إذَا دَبَّتْ الْخَمْرُ فِيهِ، وَلَمْ تَسْتَوْلِ عَلَيْهِ وَالثَّانِيَةُ نِهَايَةُ السُّكْرِ، وَهِيَ أَنْ يَصِيرَ طَافِحًا يَسْقُطُ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَكَادُ يَتَحَرَّكُ، وَالثَّالِثَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا وَهِيَ أَنْ تَخْتَلِطَ أَحْوَالُهُ فَلَا تَنْتَظِمُ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَيَبْقَى تَمْيِيزٌ وَكَلَامٌ وَفَهْمٌ فَهَذِهِ الثَّالِثَةُ مَحِلُّ الْخِلَافِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَيَنْفُذُ الطَّلَاقُ فِيهَا قَطْعًا لِبَقَاءِ الْعَقْلِ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا يَنْفُذُ فِيهَا إذْ لَا قَصْدَ لَهُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ

ــ

[حاشية قليوبي]

الْمُرُوءَةِ أَوْ بِحَضْرَةِ الْمَلَأِ إكْرَاهٌ وَالتَّخْوِيفُ بِالزِّنَا وَاللِّوَاطِ إكْرَاهٌ وَلَوْ لِذَوِي الْفُجُورِ نَحْوُ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ مِنْ غَنِيٍّ غَيْرُ إكْرَاهٍ وَهَكَذَا. قَوْلُهُ: (وَلَا يَحْصُلُ) هُوَ مُحْتَرَزٌ عَاجِلًا فِيمَا تَقَدَّمَ وَنَظَرَ فِيهِ الْأَذْرَعِيُّ فِيمَنْ تَحَقَّقَ مِنْهُ فِي الْغَدِ وَلَمْ يَرْتَضِهِ شَيْخُنَا. قَوْلُهُ: (التَّوْرِيَةُ) إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّرِيحِ لِتَوَقُّفِ الْكِنَايَةِ عَلَى نِيَّةِ الطَّلَاقِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ) وَكَذَا غَيْرُهُمَا كَإِلْقَاءٍ مِنْ شَاهِقٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ: (طَلَاقُهُ) أَيْ بِالصَّرِيحِ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِيَّةٍ كَمَا مَرَّ. قَوْلُهُ: (وَيُجَابُ إلَخْ) لَا حَاجَةَ لِلْجَوَابِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ) الشَّامِلَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ فَفِيهِ قِيَاسُ مَا لَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَصَرُّفًا فَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَذْهَبِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْحَاكِيَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مِنْهَا هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي قَوْلٍ لَا. قَوْلُهُ: (وَفِي تَصَرُّفَاتٍ) عَطْفٌ عَلَى غَيْرِهِ أَفَادَ بِهِ أَنَّ جَرَيَانَ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْأَصَالَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. قَوْلُهُ: (وَنَفَى بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْمَنْعِ) الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَفِي قَوْلٍ لَا كَمَا مَرَّ لِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الطَّلَاقِ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ قَاطِعٌ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: (وَطَرَدَ الْآخَرُ) وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ عَلَيْهِ وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي حِكَايَتِهِ بِقِيلَ. قَوْلُهُ: (الْمَنْصُوصِ) الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ. قَوْلُهُ: (مِنْ التَّصَرُّفَاتِ) بَيَانٌ لِلْجِنْسِ. قَوْلُهُ: (عَلَيْهِمَا) أَيْ السَّكْرَانِ وَمَنْ شَرِبَ دَوَاءً. قَوْلُهُ: (أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهِ) وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَجِبُ اسْتِفْسَارُهُ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ. قَوْله: (أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إلَخْ) وَيُصَدَّقُ كَذَلِكَ أَيْضًا. قَوْلُهُ: (وَيَرْجِعُ إلَخْ) هَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُتَعَدِّي وَيُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي غَيْرِهِ وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ عَقِبَهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (السَّكْرَانِ) بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِمَنْ شَرِبَ دَوَاءً.

ــ

[حاشية عميرة]

قَوْلُهُ: (لَا يَحْصُلُ بِهِ إكْرَاهٌ) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ وَرُبَّمَا يُجَامِعُهُ النَّظَرُ وَالِاخْتِيَارُ. قَوْلُهُ: (بِأَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهَا) أَوْ يَنْوِيَ حِلَّ الْوَثَاقِ أَوْ يَقْصِدَ بِطُلِّقْتِ الْعَزْمَ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ الْإِخْبَارَ كَاذِبًا، فَلَوْ عَبَّرَ بِالْكَافِ كَانَ أَوْلَى وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِقَبْلِهِ التَّعْلِيقَ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَالرَّوْضَةِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، بِأَنَّ النَّاوِيَ لِذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ لَا يُدَيَّنُ إلَّا إنْ تَلَفَّظَ سِرًّا. وَأَجَابَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَكْفِي فِيهِ الْقَصْدُ الْقَلْبِيُّ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَصْحَابِ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّوَقُّفَ عَلَى مَشِيئَةِ زَيْدٍ نَفَعَهُ بِلَا إشْكَالٍ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا يُدَيَّنُ بِخِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ.

قَوْلُهُ: (مِنْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ) قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقٍ فَزَالَ عَقْلُهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ.

قَوْلُهُ: (نَفَذَ طَلَاقُهُ إلَخْ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِسُكْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ كَالسِّرَايَةِ فِي الْجِنَايَةِ. قَوْلُهُ: (إذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ إلَخْ) قُلْت فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فَهْمٌ وَقَصْدٌ، إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا مِنْ الشَّارِحِ مَيْلٌ إلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الطَّافِحِ الَّذِي لَا فَهْمَ لَهُ وَلَا قَصْدَ أَصْلًا، كَمَا سَيَأْتِي عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

قَوْلُهُ: (وَقِيلَ عَلَيْهِ) عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ فِي هَذَا وَفَرَّقَ فَارِقُونَ بَيْنَ مَالِهِ فَجَعَلُوهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَقَطَعُوا بِنُفُوذِهَا عَلَيْهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَهَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْ صَنِيعِ الْمِنْهَاجِ.

قَوْلُهُ: (عَلَيْهِ) لَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ لَهُ وَعَلَيْهِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ قَالَ الرَّافِعِيُّ يَنْفُذُ عَلَى هَذَا تَغْلِيبًا لِلَّذِي عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (وَيَرْجِعُ فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إلَخْ) قَالَ الْغَزَالِيُّ السُّكْرُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ تَحْصُلُ مِنْ اسْتِيلَاءِ أَبْخِرَةٍ مُتَصَاعِدَةٍ مِنْ الْمَعِدَةِ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ.

فَائِدَةٌ: لَوْ قَالَ السَّكْرَانُ بَعْدَمَا طَلَّقَ شَرِبْت الْخَمْرَ مُكْرَهًا أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْكِرٌ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ قَالَهُ فِي الْبَحْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>