للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة: إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب، وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور، التي أوجبها العناد والجهل والعجز.

ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها، ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة ما لا مثيل له.

قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر آية: ٢١].

وقال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر آية: ٢٣].

وقال القاضي عياض في «الشفا»: اعلم أن القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:

الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.

الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب؛ المخالف لأساليب كلام العرب، ومنها نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، قال: وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها والأسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، خلافا لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب.

الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن فوجد كما ورد.

الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة، إلا الفذ في أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم

<<  <   >  >>