جريج بِمَكَّة ثمَّ سُفْيَان الثَّوْريّ بِالْكُوفَةِ وَحَمَّاد بن سَلمَة بِالْبَصْرَةِ والوليد بن مُسلم بِالشَّام وَجَرِير بن عبد الحميد بِالريِّ وَعبد الله بن الْمُبَارك بمرو وخراسان وهيثم ابْن بشير بواسط وَتفرد بِالْكُوفَةِ أَبُو بكر بن أبي شيبَة بتكثير الْأَبْوَاب وجودة التصنيف وَحسن التآليف فوصلت أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى من لم تكن عِنْده وَقَامَت الْحجَّة على من بلغه شَيْء مِنْهَا وجمعت الْأَحَادِيث المبينة لصِحَّة أحد التأويلات المتأولة من الْأَحَادِيث وَعرف الصَّحِيح من السقيم وزيف الِاجْتِهَاد المودي إِلَى خلاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَترك الْعَمَل بِهِ وَسقط الْعذر عَمَّن خَالف من السّنَن بِبُلُوغِهِ إِلَيْهِ وَقيام الْحجَّة عَلَيْهِ وعَلى هَذَا الطَّرِيق كَانَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَكثير من التَّابِعين يرحلون فِي طلب الحَدِيث الْوَاحِد الْأَيَّام الْكَثِيرَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من كتب الحَدِيث
فَلَمَّا قَامَ هَارُون الرشيد بالخلافة وَولى أَبَا يُوسُف بن يَعْقُوب صَاحب أبي حنيفَة الْقَضَاء بعد سنة سبعين وَمِائَة لم يُقَلّد بِبِلَاد الْعرَاق وخراسان وَالشَّام ومصر إِلَّا من أَشَارَ بِهِ أَبُو يُوسُف واعتنى بِهِ
وَكَذَلِكَ لما قَامَ بالأندلس الحكم المرتضى بن هِشَام بعد أَبِيه وتلقب بالمنتصر فِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة اخْتصَّ بِيَحْيَى بن يحيى بن كثير الأندلسي وَكَانَ قد حج وَسمع الْمُوَطَّأ من مَالك إِلَّا أبوابا وَحمل عَن وهب وَابْن الْقَاسِم وَغَيرهمَا علما كثيرا وَعَاد إِلَى الأندلس فنال من الرِّئَاسَة وَالْحُرْمَة مَا لم ينله غَيره وعادت الْفتيا إِلَيْهِ وَعظم أمره ثمَّ هُوَ لم يُقَلّد فِي سَائِر أَعمال الأندلس قَاضِيا إِلَّا بإشارته واعتنائه فصاروا على رَأْي مَالك بعد مَا كَانُوا على رَأْي الاوزاعي وَكَانَ زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن الملقب ببسطور قد ادخل مَذْهَب مَالك إِلَى الأندلس قبل يحيى وَكَانَ الْغَالِب فِي إفريقية مَذْهَب السّنَن إِلَى أَن ادخل عبد الرَّحْمَن بن فروج أَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي إِلَيْهَا مَذْهَب أبي حنيفَة فَلَمَّا يزَالُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن ولي سَحْنُون بن سعيد الْقَضَاء فنشر إِذْ ذَاك مَذْهَب مَالك وَصَارَ الْقَضَاء فِي أَصْحَاب سَحْنُون دولا وَلم يزل الْحَال على ذَلِك إِلَى زمن بني الهاشم فتوارثوا الْقَضَاء ثمَّ إِن المضر بن باديس حمل جَمِيع أهل إفريقية على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك وَترك مَا عداهُ من الْمذَاهب فَرجع أهل إفريقية كلهم وَأهل الأندلس كلهم إِلَى مَذْهَب مَالك فَفَشَا هُنَاكَ فشوا طبق تِلْكَ الأقطار كَمَا فشى مَذْهَب أبي حنيفَة بِبِلَاد الْمشرق وَلما كَانَت أَيَّام الْخَلِيفَة الْقَادِر بِاللَّه أبي الْعَبَّاس احْمَد وَتمكن الشَّيْخ أَبُو حَامِد الاسفرائيني