للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكانا في صباح اليوم الذي سجنت "جوزفين" فيه أتتها رسالة من بضع الأصدقاء يخبرونها بما سيجري عليها ويحضونها على الهرب وطلب النجاة، فلما اطلعت "جوزفين" على الرسالة جعلت تتأمل في أمر نجاتها ونجاة أولادها ولكنها لم تر بابا للهرب حتى سمعت قرع الباب الخارجي والضوضاء أمامه ففهمت سبب ذلك وأسرعت إلى الغرفة التي كان الولدان نائمين فيها ودنت منهما وهما نائمان والدموع تتساقط على وجنتيها، ثم أكبت عليهما وقبلتهما قبلة الوداع وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب لئلا يستيقظا ودخلت غرفة الاستقبال، فرأت فيها عصبة من العساكر المسلحة، فأغلظوا لها الكلام، ثم سلبوا ما في بيتها وساقوها إلى السجن الذي قتل فيه ثمانية آلاف شخص منذ اشهر قليلة.

أما الولدان، فلما استيقظا ووجدا انفسهما منفردين في البيت مع الخدم سألا عن أمهما فأجابهما واحد أنه قد قبض عليها وأخذت إلى السجن فبكيا وانتحبا، وطلبا أن يهذبا إلى السجن ويقيما مع أبيهما وأمهما وكان لهما عمة فلما علمت بسجن "جوزفين" أخذتهما إليهما.

أما "بواهرني" و"جوزفين" فكان كل منهما في سجن مظلم من سجون القتلى وقد تلطخ كل منهما بآثار الذين قتلوا في تلك السجون وكانا لا ينفكان عن الافتكار والبكاء بسبب ما جرى لهما وما سيؤل إلهي أمرهما وما آل إليه بيتهما من الخراب ويتشوقان إلى استماع شيء عن ولديهما وأحوالهما وبينما هما في السجن إذ وصلت الأخبار إلى "جوزفين" عن أمر سلامتهما ففرح قلبها بتلك الأخبار السارة.

وأما "بواهرني" فلم يمكنه أن يسمع شيئا وكان هذا الحادث الهائل هو العاصف الثاني الذي لاقته "جوزفين" في بحر هذه الحياة العجاج. أما السجن الذي كانت الذي كانت "جوزفين" مسجونة فه فكان دير "الكرملين" وقد اشتهر في تلك الأيام بكونه مصرح الظلم والعدوان وكان متسعا وفيه عدة غرف وله أسراب مظلمة حتى لقد وجد داخل جدرانه عشرة آلاف مسجون في وقت واحد وكان كل قسم من هذا البناء العظيم ملطخا بدماء القتلى الذين قتلوا في تلك الأثناء وكانت الرجال والنساء الهائجون يجرون الناس إلى السجون بالمئات والألوف، وكان كثير منهم من الكهنة الذين ساقوهم أمام مذبح الكنيسة للاستهزاء برسوم الدين وهناك قتلوهم.

وكان في سجون فرنسا حيئذ نحو ثلثمائة ألف مسجون وكلهم من الأبرياء ينتظرون ساعة قتلهم، ولم يكن فيهم أحد من سوقة الناس وجهالهم بل كانوا جميعا من أشراف فرنسا ومهذبيها، أما سجن "جوزفين" فكان في كنيسة هذا الدير مع مائة وستين نفسا من الرجال والنساء وكانت تظهر البشاشة بقدر الإمكان بين هؤلاء الرفاق وهي موقنة أنه لا ينال زوجها سوء، وراجية أنهما سيخرجان قريبا ويرجعان على بيتهما وكانت تكتب إلى زوجها وأولادها تشجعهم وتشدد عزائمهم وتجذب جميع من في السجن إليها بحسن أخلاقها، ورقة شمائها حتى امتلكت قلوب المسجونين في زمن قصير فاختاروها لتقرأ لهم الجريدة اليومية لمهارتها في القراءة وكونها ذات صوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وكانوا يرون العجلات من نوافذ السجن مشحونة بالمسجونين المسوقين إلى الذبح كل يوم فالبعض يرين رجالهن والبعض أولادهن وغيرهم من الأعزاء فيقعون على الأرض فاقدي الشعور.

وف صباح يوم الأيام حلمت "جوزفين" أنها خرجت من السجن وجلست مع زوجها وأولادها، فسمعت مناديا يناديها للحضور أمام الحكام فتأكدت من ثم قرب أجلها لأنها علمت أن لا راد للعدو في تلك الشدة العديمة الشفقة والرحمة، وأن خداع هذه المحكمة ليس إلا الخطوة الأولى لإعدام حياتها وليس بعدها إلا المذبحة فسقطت أمالها في الخلاص من قمة الرجاء إلى

<<  <   >  >>