للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحضيض واليأس وجذبها الوجد إلى ووجها وأولادها وغلب إلى هنيهة حنو المرأة على شجاعتها، ولكنها رجعت إلى نفسها واستعدت على المحاكمة بقدر ما يمكن من الهدو والسكينة، ثم سيقت من سجنها إلى دار المحكمة الملطخة بدماء القتلى وأدخلت إحدى غرفها هي وآخرون أيضا لكي ينتظرون نوبتهم للمحاكمة التي نتيجتها إما الحياة, إما الموت العاجل.

وبينما كانت "جوزفين" جالسة في هذه الغرفة تنتظر نوبتها إذ فتح باب من الجهة المقابلة ودخل منه فرقة من العساكر المتسلحة ومعهم عدد من الأسرى، وكانوا قد أتوا بهم من سجن آخر، وكانت عيون الجميع محدقة بهم وهم داخلون واحدا بعد آخر ونظرت "جوزفين" فرأت رجلا مهزولا ذكرها بزوجها فأعادت النظر إليه والتقت العين بالعين فعرف كل منهما الآخر فركض وركضت مسرعين وتذكر "بواهرني" عند ذلك عدم أهليته لكرم أخلاق "جوزفين" ومحبتها له فحنى رأسه المنصدع على كتفها وبكى بكاء الندامة والتوبة فبعد أن قضيا بعض دقائق على تلك الحالة أتى الجنود وجروا "بواهرني" إلى المحكمة، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأى فيها "جوزفين" ورأته ثم أرجعوه إلى السجن ولم يثبت عليه شيء إلا أنه كان من الأشراف والأكابر وعلى ذلك استحق الموت.

ثم أدخلت "جوزفين" في نوبتها ولم يثبت عليها شيء أيضا سوى أنها مكانت امرأة رجل من الأشراف وصاحبة "ماري انتوانت"، وكانت ذات امتيازات خاصة بها في القصر الملكي وعلى ذلك استحقت الذبح هي أيضا فردت إلى السجن، ولكنها لم تعلم بشيء من الحكم الذي صدر عليها ولا على زوجها، وكانت واثقة أنهما سيخرجان قريبا إذ لم يدر في خلدهما أنه يحكم عليهما بالموت من غير أن يثبت عليهما ارتكاب جريمة، وكانوا يأتون إلى السجن في كل مساء بجريدة أسماء الذين نصيبهم الذبح في الصباح التالي وحدث بعد محاكمة "جوزفين" وزوجها بأيام قليلة في مساء أربعة وعشرين يوليو سنة ١٧٩٤م أن "بواهرني" رأى اسمه بين أسماء الذين سيساقون إلى الذبح عند الصباح.

فلما علم ذلك وتذكر "جوزفين" وأولاده حزن وعزت عليه الحياة، ولكنه تجلد واستعد للذبح، ثم أخذ وكتب رسالة طويلة إلى "جوزفين" مفعمة بعواطف المحبة، وأكد لها اعتقاده القلبي بطهارتها وسمو صفاتها وشكرها مرارا لأجل مسامحتها إياه القلبية عن كل ما صدر منه عندما كان مذنبا حيث رجع وطلب محبتها، وطلب منها أيضا أن تربي ولديها وتعلمهما محبة أبيهما حتى يبقى ذكره بينهما ومحبته في قلوبهما بعد الممات، وبينما مكان يكتب الرسالة أتى الجلادون وقصوا شعره لكيلا يبقى شيء معارض للسيف عن قطع رأسه فالتقط خصلة ضفيرة منه لكي يرسلها على "جوزفين" تذكارا أخيرا فمنعه الجلادون القساة، ولم يسمحوا له بذلك ولكنه اشترى منهم بضع شعرات وأرسلها ضمن الرسالة. وفي الغداة كانت عجلات المذنبين واقفة على باب السجن وكان قد حكم في ذلك لايوم بإعدام عدد كثير من المسجونين، ولما كانت العجلات مارة في أسواق باريس مشحونة بالأبرياء المحكوم عليهم كانت عيون الشعب شاخصة إليهم وقد اشمأزت من هذه المظالم، ولما وصلوا إلى المكان المعين لقتلهم قتلوهم جميعا بلا شفقة حتى إذا أفضت النوبة إلى "بواهرني" صعد إلى المذبحة وهو رابط الجاش ثابت الجنان، فضربوه بالسيف ضربة كانت القاضية.

جوزفين فلم تكن موقنة بما سيقع على بعلها ولا عارفة بشيء من ذلك, ولما أتت جريدة الأخبار اليومية إلى السجن اجتهد بعض السيدات العالمات بذلك أن يخفينها عنها, أما هي فلم تنفك عن طلب الجريدة حتى استلمتها وأول شيء حول نظرها إليه أسماء الذين قتلوا فلما وجدت اسم زوجها بينهم سقطت إلى الأرض كميتة وبقيت مدة فاقدة الحواس, ولما استفاقت صرخت في وسط حزنها: آه. يا إلهي, أمتني أمتني لأنه لا سلام إلا في القبر, فاجتمع أصدقاؤها حولها وجعلوا

<<  <   >  >>