يعزونها ويسألونها الحرص على حياتها إكراما لولديها, ولكنها لم تجد للسلوى سبيلا, ولا غمض لها جفن في تلك الليلة, ولما بزغ الفجر أتى عصبة من الثائرين القساة العديمي الشفقة إلى السجن بالأخبار التي كانت تفرح "جوزفين" لولا محبتها لولديها وتعلقها بهما وكان مآل تلك الأخبار أنهم استاقوها هي أيضا إلى القتل فجاء الجلادون وقصوا شعرها استعدادا للقضاء المبرم كما كانوا يفعلونه بالمحكوم عليهم وقالوا لها: إنك لا تحتاجين إلى هذا الشعر فيما بعد فاجتمع أصدقاؤها حولها وطفقوا يبكون وينوحون.
أما هي فكانت رابطة الجأش ليس عليها شيء من ملامح الحزن والخوف والرعب, ولما رأت أصدقاؤها وما هم عليه من الحزن والغم التفتت إليهم وقالت لهم: ما بالكم تنوحون وتبكون فأنا لم أقتل كما تظنون بل إنني سأصير ملكة فرنسا لأن ذلك مكتوب لي في صحف الحوادث, فلما سمع أصحابها ذلك ازدادوا بكاء وعويلا ظانين أنها أصيبت بالجنون ونظرت إليها إحدى السيدات. وقالت: إذا لماذا لا تهيئين الحواشي والحشم لقصرك؟ فقالت لها "جوزفين": صدقت فإنك أنت تكونين وصيفتي في القصر, وكان كذلك بعد إذ, ولما أرخى الليل سدوله على ذلك السجن شمل الهدو والسكون داخله, ثم بزغت شمس الظهيرة في وسط قتام الليل وعلا هتاف الفرح والسرور بين المسجونين من كل جانب, ووقع كثيرون على الأرض فاقدي الشعور غير مصدقين بما سمعوه من البشرى وذلك أن "دوبسير" القاسي القلب كان قد أمسك وقتل وقام حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون التي كانت مفعمة بالأسرى وأطلقوا سبيل الجميع.
أما سبب إمساك "دوبسير" وقتله, فهو أن رجلا يقال له "تاليان" من المقتدرين مع ذوي الجاه والسطوة كان يحب مدام "فانشاي" وهي سيدة بارعة الجمال وكانت مسجونة مع "جوزفين" وكان يذهب كل يوم إلى السجن ليراها فحدث ذات يوم أنه اتصل بها سرا وأنه قد قربت محاكمتها, فلما علمت ذلك انتظرت وقت حضور "تاليان" إلى دار السجن ولما حضر اقتربت هي و"جوزفين" من نافذة السجن المشبكة بالحديد ورمت ورقة ملفوفة (كرمب) كتبت عليها قد دنت محاكمتي والموت مؤكد فإذا كنت تحبني كما تقول فابذل كل ما تستطيعه لإنقاذي وإنقاذ فرنسا, ثم جعلتا تشيران إليه حتى فهم قصدهما والتقط الورقة الملفوفة من الأرض ولما قرأها ثار ثائره ونبض نابضه وذهب حالا إلى أصدقائه وجعل يهيجهم ضد "دوبسير" وأتباعه, وكان الشعب قد مل من مظالم "دوبسير" فوافقه على ذلك حزب كبير منهم وأثاروا ثورة عظيمة في باريس على "دوبسير" فدارت الدائرة عليه وعلى أتباعه فقبضوا عليهم وقتلوهم وخلصوا البلاد من ظلمهم وعدوانهم ثم فتحوا أبواب السجون, وأخرجوا جميع الذين كانوا فيها وعددهم نحو خمسمائة ألف مسجون فأي قلم أو أي لسان يستطيع أن يعبر عما شمل الفرنساويين من الفرح والابتهاج لما انتشرت الأخبار في البلاد بإعدام ذلك الظالم الغشوم وإنقاذ أحبائهم من يده, وتخلصت "جوزفين" بهذه الواسطة من سجنها مثل كثيرين, ولكنها لم تخرج من ظلام السجن إلا إلى عالم أشد ظلاما وأكثف غماما فإن زوجها كان قد قتل, وبيتها قد نهب, وأملاكها اغتالها الناس, وكثيرون من أصدقائها قد هلكوا, فأمست وهي أرملة فقيرة ليس عندها شيء ولا لها من تذهب إليه وتطلب معونته, ولم تستطع أن تتعاطى عملا من الأعمال يمكنها به القيام بمعاشها ومعاش ولديها السبب توقف الحال بالاضطرابات الكثيرة فلم تر بدا هي وولداها من بسط كف السؤال وكان ما تجشمته في هذه المدة من أمر ما ذاقت وأصعب ما لاقت في كل أيام حياتها فمن هذه الدرجة ترقت "جوزفين" إلى أسمى درجة لا يمكن أحدا من الناس أن يتصورها ولا في منامه.