قلنا: إن "دوبسير" قتل وقام مكانه حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون للأسرى إلا أن دم القتلى لم يزل جاريا كما كان لأن هؤلاء الحكام قصدوا قطع شأفة الأشراف من البلاد, فكانوا يجرون الناس للقتل ذكورا وإناثا, كبارا وصغارا حتى إنهم كانوا يذهبون إلى المدارس ويجرون تلامذتها صبيانا وبنات ويقتلونهم. فلما رأت "جوزفين" ذلك ارتعدت فرائصها جزعا على ابنها وحاولت إخفاءه فأرسلته إلى أحد النجارين وظل يعمل عنده بمهنة عدة أشهر, وهو فرح بذلك.
أما "جوزفين" فلم تبق على هذه الحالة وحشا لسيدة كبيرة النفس, كريمة الأخلاق, حميدة السجايا مثل "جوزفين" أن تترك بين جماعات البشر ولا يلتفت إليها, بل تفتح صدور المنازل وتعطى كل ما تحتاج إليه فإن كل أحد كان يشعر أن ينال شرفا عظيما بمصاحبتها, وكانت امرأة تدعى "دوميلين" وهي سيدة عظيمة ذات ميراث عظيم وقد اتفق خلاصها وخلاص أموالها من جور فرنسا فهذه دعت "جوزفين" إلى بيتها وبذلت لها كل ما تحتاج إليه, وكذلك مدام "فانشاي" وهي السيدة التي خلصت نفسها وعددا كبيرا معها بكتابتها إلى "تاليان" على ورقة الملفوف, وكان بعد خلاصها من السجن أنها اقترنت ب "تاليان" وهي أيضا كانت من أعز صديقات "جوزفين", وكانت تبذل لها ما تحتاج إليه مع كثيرين من غيرها.
ثم إن جوزفين قامت تطالب بحقوقها مع جمعية اتفاق الأمة وهي استرجاع أملاكها المحجوزة وذلك على يد "تاليان" فنجح مسعاها بعد مدة طويلة وأتعاب جسيمة واسترجعت جانبا من أملاكها التي استولوا عليها, فرجعت بذلك ثانية على بيتها الخاص وجمعت إليها ولديها "هورتنس" و"أيوجين" وكانت محاطة بأصدقائها المخلصين, وصفت لها الأيام وسالمتها الليالي رويدا, وحدث ذات يوم أنها دعت ابنها على غرفتها وأعطته صورة أبيه المقتول وقالت له: خذ هذه يا ولدي إلى غرفتك واجعلها غاية تأملك, ونموذج حياتك الدائم فإن صاحبها كان أول محبوب بين الناس, ولو بقي حيا لكان أحسن والد, فأخذ "أيوجين" الصورة من أمه وخرج وهو يقبلها والدموع تتساقط من عينيه, ثم عاد في المساء على والدته وبصحبته ستة من أصدقائه وقد وضعوا على أعناقهم شرائط بيضا وسودا على مثال صورة "بواهرني" فنظر "أيوجين" إلى أمه وقال: انظري يا أماه, إلى مؤسسي نظام جديد في الفراسة وهذا قديسنا الحافظ لنا وأشار على صورة والده وهؤلاء هم أعضاؤها الأولون.
ثم عرفها بكل منهم وقال: إن اسم هذا النظام نظام المحبة البنوية فإذا كنت تحبين أن تكوني شاهدة على افتتاحها فادخلي المجلس الصغير مع هؤلاء الشبان, فدخلت "جوزفين" معهم وإذا جدران الغرفة مزينة تزيينا جميلا بأكاليل الورد والغار وكانوا قد أخذوا نسق ذلك من مقالات ل "بواهرني" كانت قد طبعت قبلا, وكانت الغرفة مستنيرة أيضا بالشموع المضيئة. وفي أحد حيطانها مذبح كبير وعليه صورة "بواهرني" التي كانت بقدر جسمه تماما, وقد زين بالأزهار الجميلة, وعلق بإطار الصورة أكاليل معقودة من الورد الأبيض والأحمر وأمامها حنجوران من الطيوب.
ثم رتبوا أنفسهم حول المذبح بكل هدو واستلوا سيوفهم من أغمادها عند إبداء شارة معينة ثم تعاهدوا على محبة والديهم ومساعدة بعضهم بعضا, والمحاماة عن بلادهم. ولما فرغوا من معاهدة بعضهم بعضا تقدمت "جوزفين" غليهم ودموع الفرح من صنيعهم ممزوجة بالتبسمات الوالدية. ثم أخذت يد كل منهم وأظهرت فرحها بتأسيس هذه الجمعية.
وكانت "جوزفين" مع كل ما أصابها لا تزال على ما كانت عليه من اللطف والبشاشة, والنزاهة والفكاهة وذلك ما جذب كثيرين من الأصدقاء إليها, وكانت هيئات باريس الاجتماعية قد انقلبت من التقلبات السياسية