منهم والتفاتها غليهم الفقير كالغني والصعلوك كالأمير, وكانت إذا صادفت صديقا أقام على صداقتها مدى العمر, والذي مكنها من ذلك قواها العقلية وخلوص محبتها وسهولة الاقتراب منها, ولولا مساعدتها ل "نابوليون" ما أوصلته بسالته إلى الدرجة التي وصل إليها فإنه لما كانت "جوزفين" رفيقته ومعينته كان ظافرا منصورا, ولما تركها كسر وخذل.
وأقامت "جوزفين" سنة ونصفا في ميلان", ثم رجعت إلى فرنسا حيث " نابوليون" كانت حكومة "الديكرنوا" خائفة منه فأرادت أن تبعده عنها, فعرضت عليه أن يتقلد قيادة الأسطول المعين بغزو الأساكل الإنكليزية, فذهب "نابوليون" يتعهد أحوال تلك الأساكل, وقضى عشرة أيام ثم رجع على باريس وقال: "إن النجاح غير مؤكد".
ولكنه أبدى رأيا بفتح الديار المصرية والسورية لتكون بابا للهند ثم يتقدم إلى فتح الهند وطرد الإنكليز منها وتجنيد عساكر من الأهالي وجعل ضباطا من الأوروبيين عليهم, ففرحت الحكومة بهذا الرأي وأجابت طلبه حالا لا رغبة في فتح البلدان, بل في إبعاد "نابوليون" عن فرنسا متوقعين أن يهلك ويتخلصوا منه لأنهم أمسوا جميعا خائفين سطوته, فجهزت الحكومة له ثمانية وعشرين بارجة وأربعمائة سفينة لنقل مهمات الحرب وأربعين ألف جندي.
وفي صباح التاسع عشر من أيار (ماي) سنة ١٧٩٨ م كان في ميناء "طولون" طالبا الديار الشرقية, وطانت "جوزفين" قد رافقته إلى "طولون" وقد رغبت كل الرغبة في الذهاب معه إلى مصر, ولكنه لم يسمح لها ووعدها إنه إذا نجح يبعث ليأخذها, ولما اقلعوا كانت "جوزفين" واقفة في شرفة البيت وعيناها مغرورقتان بالدموع محدقتان بذلك المنظر البهيج المحزن, ثم حولت عينها وتفرست في المركب الكبير الذي كان ينقل زوجها وابنها سائرا بهما وسط المخاطر, وصار المركب يبعد عنها ويصغر أكثر فأكثر حتى اختفى أخيرا بين مياه البحر المتوسط فدخلت غرفتها وشعرت بانفرادها ووحدتها وكان "نابوليون" قبل ذهابه على مصر قد عين "بلومبيا" مسكنا ل "جوزفين" ريثما يرسل في طلبها.
ولما رأت "جوزفين" أنها منفردة أرسلت فطلبت ابنتها من المدرسة لتقيم معها مدة بعدها عن زوجها وابنها, وكانت تأمل أنه حالما يفتح بلاد مصر ينجز وعده لها وينقلها على وادي النيل ولم يمض زمان طويل حتى كتب إليها بأن تتأهب للسفر فعما قريب تصل غليها البارجة المسماة "بومونا" لتعبر بها البحر المتوسط إلى مصر ولكن اتفق في صباح يوم من الأيام أنها كانت جالسة وإبرتها في يدها, وحولها عدد من السيدات صديقاتها وابنتها "هورتنس" فخرجت إحدى السيدات إلى الشرفة خارجا فأبصرت كلبا قريبا مارا في الزقاق ودعتهن ليرينه فتراكضن على الشرفة, ولما وصلن إليها هبطت بهن على الأرض وألقتهن جميعا, فاضطر كثير منهن إلى ملازمة الفراش مدة طويلة وفي جملتين "جوزفين" فإنه مضى عليها مدة أشهر ما أمكنها الخروج من البيت ولكن هذه الحادثة من عظمها كانت قد نجتها من أخرى أعظم منها فإن البارجة التي كان قد أرسلها "نابوليون" لتأخذها إلى مصر كانت قد أخذت في البحر وأرسلت إلى لندن.
فلما علم: نابوليون" بما وقع ل "جوزفين" وإنه لا يمكنها الحضور بعد إلى مصر كتب إليها بأن تشتري مسكنا خارجا عن باريس وتنتقل إليه وإنه إذا لم يعقه عائق يصل إليها قريبا, فاشترت "جوزفين" قصرا جميلا يبعد عشرة أميال عن باريس وخمسة أميال عن "فارساليا" اسمه "ملمازون" بمائة ألف ريال وأضافت إليه أراضي واسعة من كل الجهات وكانت مولعة به لكثرة ما يشرف عليه من المناظر الطبيعية ولما حضر "نابوليون" سر به هو أيضا وكان من أحب المساكن إليهما.
وفي أول فصل الخريف أخذت "جوزفين" تتعافى