مما أصاب فتركت "بلوم بيار" وأتت على "ملمازون" مع ابنتها وعدد من السيدات, وكان بيتها غاصا بالأشراف والأدباء, وكانت تكتب على "نابوليون" بكل ما يجري في القصر حتى الأحاديث التي تدور بينها وبين زوارها فيسر بأخبارها ويطلب منها أن تجتهد في توثيق رباطات المحبة والمودة بينه وبين أصدقائه القدماء, وأن تبذل جهدها في مصادقة آخرين غيرهم, وكان ل "جوزفين" تأثير عظيم في أعضاء "الديركتوار" وقد خلصت كثيرين من الضيق وردت إلى كثيرين آخرين الأملاك التي أخذت منهم, ولما رأى البعض تأثير "جوزفين" في "نابوليون" أرادوا أن يحولوا بينهما لغايات سياسية فاستعملوا لذلك نفس الأسباب التي كانت هي تستعملها لكي تكتسب له أصدقاء ونسبوا إليها الخفة والطيش, وكان لهؤلاء الأعداء تأثير عظيم في "نابوليون" فجعلوا يوسوسون في صدره ويهيجونه عليها فأثر كلامهم فيه لحدة مزاجه وقام من فوره فكتب إليها رسالة ضمنها قوارص الكلم فلما اطلعت "جوزفين" عليها تأثرت تأثرا عظيما, وقامت فكتبت إليه كتابا لطيفا رقيقا لم يسبق له نظير في الخلوص والرقة, وكانت محبتها وصفاء قلبها يظهران في خلال كل سطر من سطوره, ولكن حجزت هذه الرسالة بمساعي المحتالين فلم تصل على "نابوليون" وكانت المراكب الإنكليزية وقتئذ مراقبة لفرنسا وقد منعت كل مراسلة بينها وبين الجيوش في مصر.
وكانت كل يوم تصل إلى "جوزفين" أخبار سيئة عن أحوال الجيوش في مصر, ومرة وصل إليها خبر أن زوجها مات فاشتغل بالها وأمست في قلق وبلبال, وقد كانت تخاف دائما أن زوجها ربما يترك محبتها بعد رجوعه محمولا على ذلك بسعي المفسدين والوشاة, ولكنها لم تزل تبذل غاية جهدها في كل ما يؤل إلى خيره ونجاحه ومع أن قلبها كان تعبا وخاطرها مكسورا.
كانت تفعل كل ما تقدر عليه لكي تظهر البشاشة للجميع حسب عاداتها, وكانت تسلي نفسها بالأزهار والرياحين فتقضي جانبا من وقتها مع ابنتها "هورتنس" في الحديقة ومعولها ومرشتها في يدها, ثم كانت تقضي جانبا كبيرا من وقتها في زيارة بيوت الفلاحين حواليها, وكان كفها دائما مفتوحا لسد عوز المحتاجين, فتتصدق عليهم وتفرح لأفراحهم, وتحزن لأحزانهم.
ولما توجت إمبرطورة على فرنسا ابتهج هؤلاء الفلاحون ابتهاجا عظيما ودعوا لها بطول البقاء, وحسبوها من أجدر النساء بهذا المقام وهكذا قضت "جوزفين" عدة أشهر بعضها في الجولان بين هؤلاء الفلاحين وبعضها في القصر بين الأشراف والأمراء في انتظار استماع الأخبار من " نابوليون".
وفي ذلك الوقت ابتدأت سنة ١٧٩٩ ميلادية فلاح أنها من بدأتها سنة شؤم على فرنسا فإن الفرنساويين كانوا قد تعبوا من مظالم الثورة وكانت حركة الأشغال واقفة, والجوع عاما في البلاد, وكان النمساويون قد دخلوا إيطاليا ثانية, وأوقعوا بالفرنساويين من كل جانب, وكانت الصلات بين الجيوش في مصر وبين فرنسا مقطوعة وأخبار موت "نابوليون" ذائعة في كل البلاد, وأما حكومة "الديركتوار" فكانت مؤلفة وقتئذ من خمسة قد نشأوا في غصون الثورة من بين عامة الناس واستلموا زمام الحكم وكانوا قساة ظالمين لا يعرفون شيئا من العدل والإنصاف, وكان الشعب قد سئم منهم وكره الاستمرار على هذه الحالة وتمنى مد يد قوية لإصلاح الأحوال السياسية وإرجاع الحكم والنظام إلى البلاد.
وفي المساء التاسع من تشرين الثاني (أكتوبر) من تلك السنة دعا رئيس "الديركتوار" إلى بيته أكابر باريس ووجهاءها, وكانت "جوزفين" في جملة المدعوين وبينما هم جالسون على المائدة عند نصف الليل إذ وصلت رسالة برقية إلى الرئيس حاوية أخبار وصول "نابوليون" إلى "فريجي" (وهي مدينة صغيرة على شاطئ البحر المتوسط) فلما سمعت "جوزفين" ذلك