أسرعت إلى بيتها وركبت مركبها وسارت مسرعة لملاقاة زوجها, وكانت راغبة في الوصول إليه قبل أن يصل إليه الأعداء ويسمعوه التهم والوشايات الباطلة, فسارت نهارا وليلا بلا أكل ولا نوم حتى إذا وصلت إلى "ليون" أخبرت أن "نابوليون" ترك المدينة إلى باريس منذ يومين فساءها ذلك كثيرا, وجعلت تضرب أخماسا لأسداس وتقول: "ما عسى أن يقول الأعداء عني إذا وصل "نابوليون" إلى باريس ولم يجدني في البيت".
وكان من أخص هؤلاء الأعداء إخوة "نابوليون" ونساؤهم وذلك لما رأوا النجاح الذي وصل إليه "نابوليون" بتأثير "جوزفين" فيه زمام الأمور سيصبح في قبضة يده عما قريب ويكون هو الحاكم المطلق حسدوه وحاولوا أن يقفوا في سبيله فلم يجدوا سوى إلقاء البغض والفساد بينه وبين "جوزفين", ولما وصل إلى باريس في العاشر من تشرين الثاني (أكتوبر) اجتمعوا حواليه وصاروا يشكون إليه أعمال "جوزفين" وينسبون غليها الخفة والطيش والإسراف وعدم الافتكار به وغير ذلك.
فلما سمع "نابوليون" ذلك هاج غضبه وقال بصوت عال" "إنني لأطلقنها". فالتفت غليه أحد الحضور وقال له: الآن تأتيك معتذرة بلسانها الفصيح وكلامها العذب فتصفح عنها وتعودان على ما كنتما عليه. فأجاب: نابوليون" وهو يتمشى في الغرفة ذهابا وإيابا: "لن أصفح عنها وأنت تعرفني ولولا خوف العاقبة لنزعت هذا القلب وألقيته في النار". وبمثل ذلك عزم "نابوليون" أن يلاقي "جوزفين" بعد غيابه عنها زهاء سنة ونصف من الزمان.
ولما كان اليوم الثالث من وصوله عند منتصف الليل وصلت "جوزفين" وكان "أيوجين" ينتظر وصولها بإفراغ صبر, ولما علم بذلك لاقاها إلى الدار السفلى, ثم صعد بها إلى القسم العلوي حيث كان مجتمع أهل البيت وكان "نابوليون" جالسا هناك مع أخيه يوسف فأخذت "جوزفين" ترتجف وهي صاعدة على السلم خوفا من "نابوليون", ولما وصلت على الباب رآها "نابوليون" قبل أن تدخل الغرفة فالتفت إليها مغضبا وقال لها: "ارجعي حالا على ملمازون".
فلما سمعت "جوزفين" ذلك غابت عن الرشد وأوشكت أن تسقط إلى الأرض فأمسكها ابنها وذهب بها على غرفتها وهو في حال الكدر الشديد, ولم يمض ربع ساعة حتى سمع صوت "أيوجين" وأمه وأخته نازلين على السلم قاصدين الذهاب جميعا إلى "ملمازون" فلما شعر "نابوليون" بنزولهم أسرع من غرفته وصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع وهو لم يكن متوقعا هذه الطاعة الغريبة في "جوزفين" وكان قلبه لم يزل يحبها وطلب رجوعها, ولما وجدها تاركة البيت وذاهبة أراد إرجاعها, ولكن أنفته منعته من أن يدعوها صريحا ويرجعها, فصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع حتى اضطر ان يرجع بأمه وأخته, ولما رجعوا لم يكلم أحد منهم الآخر بل دخلت "جوزفين" غرفتها وطرحت نفسها علة مقعد كان فيها ودخل "نابوليون" غرفته أيضا وبقيا يومين لم ير أحدهما الآخر وأخذت محبة "نابوليون" ل "جوزفين" ترجع تدريجا في هذه المدة, من مائدة ورسائل "نابوليون" المرسلة إليها مفتوحة أمامها على المائدة, فلما دخل "نابوليون" وقف هنيهة ثم نادى بصوت خفيف: "يا جوزفين". فرفعت "جوزفين" رأسها وقد غسل الدمع وجهها وأجابت بصوت كئب, ونغمة حنونة جرحت قلبه ولم ينسها كل أيام حياته فمد يده إليها ومدت يدها إليه ثم حنت رأسها عليه وبكت بكاء شديدا وقضيا بضعة ساعات في إيضاح الأمور وإزالة الشكوك, ومن ثم عادت ثقة "نابوليون" الأولي ب "جوزفين ولم يعد شيء يغيره عنها.
وكان "نابوليون" و"جوزفين" مقيمين وقتئذ في "دي شنتراين", وكانت أنديتهما دائما غاصة بالقواد والأدباء والأشراف -شأن أندية الملوك والعظماء- وهم يتباحثون في أحوال البلاد وكيفية إصلاحها ويقولون: إنه