لا رجاء لفرنسا غلا إذا مد "نابوليون" يده.
ولم يمض شهر على رجوعه إلى باريس حتى انقلبت سياسة فرنسا وأبدلت الحكومة المديرية بالقنصلية وكانت الحكومة القنصلية مؤلفة من ثلاثة قناصل وخمس وعشرين عضوا و"نابوليون" أحد هؤلاء الثلاثة قناصل ورئيسهم أيضا, ولما أخذ "نابوليون" على نفسه عهد هذه الخدمة التي دعي إليها لم يفه لأحد ألبتة بذلك حتى ذهب أولا إلى "جوزفين" القوي في أهالي باريس مدة غياب "نابوليون" في مصر, وقد شعر نابوليون" نفسه بعظم مساعدة "جوزفين" له في هذا فشكرها على ذلك.
وفي غد ذلك نقل "نابوليون" و"جوزفين" من "دي شنتراين" إلى "لوكزمبرج" وكان هذا القصر عتبة "التوبلمري". وفي صباح التاسع عشر من شباط (فبراير) سنة ١٨٠٠ م انتقل "نابوليون" إلى التوبلري" بموكب عظيم كان انتقاله إليه تبوأه تخت ملك فرنسا. وفي مساء ذلك اليوم نفسه انتقلت "جوزفين" أيضا في مركب خاص بها, ولما وصلت إلى "التوبلري" وجدت زوجها بين سفراء الدول وعظماء المملكة وأشرافها فدخلت عليهم, وعرفها بهم فتلقاها الجميع بإجلال واحترام يلقيان بملكة وأشرافها عظيمة الشأن, وكان ل "جوزفين" في ذلك الوقت نحو ثلاث وثلاثين سنة من العمر وقد زادتها هذه السنون حسنا وجمالا عوضا عن أن تذهب بنضارة صباها فإنها كانت معتدلة القوام, وضاحة الحسن, ذات عينين زرقاوين, ومحيا تقرأ عليه آيات اللطف والكمال وكأن ما جرى لها في حياتها من الأتعاب والأحزان قد زاد اختبارها لهذه الدنيا ووسع نطاق معارفها وثقف عقلها, وكانت قد بلغت أوج عزها وإيناع مجدها, وطارت شهرتها في أنحاء البلاد كما طارت شهرة "نابوليون" في ذلك الحين.
وكان رجال الثورة وقتئذ قد غيروا تقسيم الوقت إلى أسابيع, وأبطلوا حفظ الآحاد إلا أنهم جعلوا يوما واحدا من كل عشرة أيام للراحة من عناء الأعمال وكان "نابوليون" يقضي هذا اليوم هو و"جوزفين" في "ملمازون", وقد كان من أسعد أيامهما لأنهما سئما من عيشة البلاط وازدحامه وكثرة تكلفاته ورسمياته, فإذا أتت ساعة رجوعهما إلى "التوبلمري" ذكر "نابوليون" ذلك ل "جوزفين" فتنهدا وكان النمساويون مدة غياب "نابوليون" في مصر قد رجعوا إلى إيطاليا وطردوا الفرنساويين من كل الأملاك التي كان "نابوليون" قد رفع فيها راية الجمهورية.
فلما حسن "نابوليون" أحوال البلاد الداخلية وجه أفكاره إلى الجيوش المهزومة التي كان قد أوصلها النمساويون إلى الألب فأخبر "جوزفين" بأفكاره وقال لها: إن ذهابه ضروري ولكنه لا يغيب طويلا فودعها في السابع من أيار (ماي) سنة ١٨٠٠م في "التوبلمري" وفي الثاني من تموز (يوليو) عاد إليها ظافرا منصورا, فإنه كان في هذه المدة الوجيزة التي لم تزد على الشهرين قد طرد النمساويين وزينوا المدينة ليلة بعد أخرى وإظهارا لفرحهم وحبهم له كانوا حيثما يجدونه يتجمهرون ويدعون له بالنصر.
وكانت "جوزفين" قد قضت هذه المدة من غياب "نابوليون" في "ملمازون", وكانت تكاتبه يوميا, وهو كذلك وكان كثيرا ما يكتب إليها وهو على ظهر جواده, وأحيانا وهو في ساحة القتال, وأحيانا كان يملي على كاتبه من وسط المعركة وطبول الحرب تقرع وجثث القتلى تتساقط فكان يكتب الكاتب الجمل الوجيزة التي يلقنه إياها, ويرسلها إلى "جوزفين".
فهذه الالتفاتات من "نابوليون" إلى "جوزفين" في مثل هذه