فأذنت لهن بالخلوة طمعاً في أن يملنه إليها، فجعلت كل واحدة منهن إذا خلت به تدعوه إلى نفسها وتشكو إليه وجدها فقال يوسف: يا ربي كانت واحدة لم أقدر عليها بعنايتك، وقد صرعن جماعة (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)(يوسف: ٣٣) .
ولما رأين أن لا حيلة لهن باستمالته قلن لها افعلي ما بدا لك فيه، فطاولته مدة من الزمن ولما يئست منه قالت لزوجها: إن هذا الغلام فضحني بين الناس ونكس رأسي بين نظرائي وقد شاع خبري وخبره في مصر ولا براءة لي عندهم إلا أن أحبسه في السجن· فقال لها زوجها: لا يحبسه إلا الملك الريان بن الوليد، وكان مراده أن يخرج أمره من يدها لأنه إذا كان مره بيدها ربما حنت عليه وأخرجته من السجن فلما سمعت ذلك لبست ثيابها وزينتها وجعلت تاجها على رأسها وخرجت حتى أتت إلى الريان بن الوليد وكان في بيته الأعظم وهو بيت من الحديد والنحاس فيه الزخارف بأنواع الجواهر والمعادن وكان يجلس في أعلى الباب حتى إذا دخل عليه أحد يراه قبل دخوله، فإن شاء أذن له وإلا ينصرف·
ولما رأى زليخا مقبلة أذن لها بالدخول وأمر الغلمان بفتح الأبواب أمامها، وكانت ذات قدر عظيم عنده مسموعة الكلمة لأنها من بنات الملوك، ولما دخلت على الملك خرت له ساجدة فقال لها الملك: ارفعي رأسك فأنت المقربة المرضية وحاجتك عندي مقضية، فرفعت رأسها إليه وأخذت في الثناء عليه بقولها: أيها الملك دام لك العز والبقاء وألبست ثوب النعمة والرخاء لم تزل لي مكوماً ولقضاء حاجتي مسرعاً وأن عبدي العبراني قد استعصى عليّ وأحب أن تأذن لي بحبسه في سجن المجرمين حتى يتأدب ولو بعد حين فقال لها: قد أجبتك وجعلت أمر السجن بيدك فانطلقي فاطلقي من شئت واحبسي من شئت فأخذت إذنه ورجعت إلى منزلها وأمرت بإحضار الحدادين إليها فمثلوا بين يديها فقالت لهم: إني أريد أن تصنعوا لي قيداً محكماً لعبدي يوسف العبراني· فقالوا: أيتها الملكة المطاعة في أمرها العظيم في قومها إنا نرى بدناً ناعماً وساقاً رقيقاً ووجهاً أنيقاً، وإنه ربي بنعمة كاملة وعافية شاملة، فكيف يقوى على حمل القيد الحديد الثقيل· فقالت: قيدوه وهذا لا يعنيكم· فقال يوسف: افعلوا ما أمرتكم به فإني من أهل بيت البلاء فقيدوه وحملوه على الأكتاف وانطلقوا به إلى السجن وتسامح الناس به فأقبلوا عليه من كل مكان حتى غصت الطرقات وصاروا ينظرون إليه ويقولون: إنه عصى سيدته الملكة وهو منكس رأسه ويقول: هذا خير من عصيان رب العالمين، فلما وصلوا به إلى السجن قالوا للسجان: خذ هذا فإن سيدته غضبت عليه وأمرت أن يسجن في سجن المجرمين، فأدخله السجان إلى السجن ووضعه بين أصحاب الكبائر والجنايات، ودخل العزيز على زليخا وقال: ما فعلت بيوسف؟ قالت: قيدته وحبسته وكان كرادها أن تخرجه عن قريب· فقال لها: أقسمت عليك بالملك الريان ورأسه إلا ما أبقيت يوسف في السجن ما دام املك حياً فلم يمكنها إلا إبرار القسم وأدركها الندم، ولم تجد عذراً تخرجه به، وكانت تصعد إذا جن الليل إلى أعلى قصرها وتنظر إلى جهة السجن وتبكي وتقول: حبيبي يوسف ليت شعري أنائم أنت أم يقظان أجائع أنت أم عطشان، وتبقى على ذلك النحيب والبكاء حتى ينفجر الصبح وجداً عليه وشوقاً إليه وقد أنحلت الغرام وخالطها الهيام وداخلها السقام وهجرها المنام، وتعذر على ناعتها إثباتها ودامت على ذلك لا تشكو إلا بذكره ولا تسأل إلا عن أمره مدة اثنتي عشرة سنة حتى أذن الله ليوسف بالخروج من السجن كما جاء في قصته، ولم يشأ الخروج إلا بعد براءة ساحته، فجاء الملك بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن وسألهن عن ذنب يوسف بقوله: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه وكيف دعوتنه إلى الفاحشة فأقررن عند ذلك·