حتى الآن أن الجارية تركت حماية سيدها الواجبة عليه حتى الموت وعادت إلى حيث يقيم أبوها وذوو قرباه.
قالت: لا جرم إن ذلك منبعث عن نفرتها من أبيها وأمها وذوي قرباها الذين باعوها أليس كذلك؟ فقلت: عفوا أيتها المادام ليس الأمر كذلك فإذا سمحت أتيتك بالإيضاح الوافي قالت يا عجبا، تطلبين مني الإذن للإيضاح، وأنا أرجوه وأسترحمه إنني رأيت الأرقاء في حالة تختلف عما سمعته عنهم حتى إن الذي سمعته منك عن الأسرى هو يباين الذي كنت فهمته على الخط المستقيم، فلو تماهلت في بيان الإيضاحات لرأيت من نفسي ما يحملني كرها على تقديم الرجاء إليك بان توافيني ببيان شاف عنها فأرجوك أيتها السيدة أن تواصلي الحديث.
قلت: لا يخفى أنه متى ولد للجراكسة ابنة جميلة يأخذون في الحداء لها لكي تنام سالكين في ذلك على طريقة الإفرنج الذي يعودون أولادهم على أن يسمعوهم وهم في دور الطفولية اسم رتبة المارشال والجنرال لترسخ في أذهانهم فيكون لهم ميل إلى الانخراط في الجندية، والجراكسة أيضا يسمعون بناتهم الجميلات في دور الطفولية مثل هذه الأقوال حيث يقولون للطفلة إنك تذهبين إلى الأستانة فتصيرين زوجة أحد الباشوات فلا تنسين أهلك وذوي قرباك بلا اجتهدي في إعانتهم، حتى إذا أدركت الطفلة معنى الكلام يملؤون آذانهم بمدائح سعادة وحسن حال خالتها وعمتها الموجودة في الأستانة فيتجسم الميل في الطفلة تجسما كبيرا، وتبتدئ أن تسأل نفسها عن الزمن الذي تذهب به لتحظى بالسعادة الموعودة.
أما والداها فإنهما يبذلان روحهما ومطلق عنايتهما في الاهتمام بها والسبب في ذلك أنها جميلة وأنه سيأتي يوم تصير به ولي نعمتهما وعندما توصل الفتاة إلى السن الذي تعرف به نفسها تخجل لا محالة من مخاطبة والديها فتأخذ في مخابرة الفتيات اللاتي ينبئنها عن المستقبل الذي يبتسم لها وتتذمر مشتكية من الإهمال الواقع في إرسالها.
ومن ههنا يتضح جليا أيتها المادام أن ذا الوالد وهاته الوالدة يرسلان ابنتهما إلى البلدة التي ينتظرها بها خاطبها، ولكن هو الخاطب الذي يقبل بنتهما بلا جهاز ولا يكلفها، نفقات، وفضلا عن ذلك فإنه الخاطب الذي يهيل عليها من سائر أنواع الحلي والمجوهرات.
وأما الابنة فإنها تنفصل عن أبيها وأمها وذوي قرباها لتبحث لهم عن السعادة والمستقبل الذي ينظرونه منها، ولكن كيف تنفصل إنها تنفصل بشجاعة وبسالة تدل على أنها تخاطبهم بلسان حالها قائلة لهم:"إنني لا أحملكم ثقلة في إيجاد زوج لي، وإنما سأجده بنفسي فانظروا كيف إنني سأفيكم حقوقكم وعنايتكم بي حتى بلغت هذا الطول بصورة تظهر بها العظمة وعزة النفس".
وما ينطقها بهذا القول إلا الأمنية والثقة بأنها بواسطة جمالها المنصوب مثاله في المرآة ستحصل على الزوج الذي تريده والسعادة التي ترغب فيها، والمفهوم أيتها المادام أنهم إذا لم يرسلوها أصبحت في ذلك الوقت عدوة لعائلتها ثم نأتي الآن للبحث بالفتيات غير الجميلات، فهؤلاء لما كن محرومات من آمال أولئك الجميلات من حيث إنهن لم ينلن الأمنية والثقة في النظر إلى مرآة وجوههن، بينايكن مأيوسات من حالتهن واضطرارهن إلى صرف العمر والسعي والاهتمام والخدمة في بلادهن إذ تتوارد عليهن الرسائل من بنات أعمامهن وأخوالهن غير الجميلات مثلهن اللاتي ذهبن إلى الأستانة فيقرأن في سطورها ما يفيد أنهن متمتعات بالراحة وإنهن قد حصلن على الاستراحة التامة لتملصهن من عذاب الخدمة والاهتمام بحرث وفلاحة الأراضي، ثم يتبين لهن من الرسائل التي يأخذها بعد ذلك أن الجارية التي قامت بخدمتها قد أخذ لها