للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

فقط من لون السماء الصافي, ولمعان الكواكب وسكون البحر ونور القمر وضياء الشمس فيكتفي بهذا السرور ليس إلا.

لا جرم أن الإنسان كيفما التفت وأينما وجه نظره يتمثل لدى عينيه عظمة الله ووحدانيته.

ولكن أنت تعلمين أن أكثر مذاهب النصارى يعتقدون بالتثليث فلا أدري كيف يمكن توفيق ذلك مع الوحدانية.

قالت: من المعلوم أن المسائل الدينية مستندة إلى الرواية لا إلى أدلة عقلية أما أنا فقد افتكرت كثيرا في مسألة التثليث, فلم أتمكن من توفيقها على العقل والحكمة ولأجل ذلك أعتقد بوحدانية الله.

قلت: إذن يقتضي أن تكوني على مذهب الأربانيين.

قالت: كلا, إن هذا المذهب قد انقرض فإن مجمع أزنيق قد محاه محوا فالتثليث عند النصارى إنما هو بمثابة سر لا يدركه العقل فليس لهم إلا التسليم والاعتقاد.

قلت: إن الإنجيل الشريف خال من النص والتصريح المتعلق بمسألة التثليث فليس ثمة إكراه في الاعتقاد بشيء لا ينطبق على المعقول.

أما مسألة التثليث فقد ظهرت بعد حضرة سيدنا عيسى وبعده بأعصر ولا يوجد في الأناجيل قول يثبت ذلك, وما هناك من بعض التعبيرات لا تتخذ سندا وحجة لأن التوراة الشريف والإنجيل الشريف لو ظلا كما نزلا دون أن يطرأ عليهما تغيير أو تحريف لكانا حجة على إثبات هاته الأمور: ومعلوم أن الإنجيل الشريف لا يعرف في أية لغة كتب بادي بدء إذ لا يزال ذاك مختلفا فيه فمن المحتمل أن الوقت لم يمكن من كتابته فيبقى محفوظا في الأذهان حتى إذا عرج حضرة سيدنا عيسى -عليه السلام- إلى الملأ الأعلى درج ما بقي مستظهرا في أذهان الحواريين من الآيات الإنجيلية في الأناجيل على طرز الحكاية.

وعلى ذلك فإن الأناجيل التي كتبت وهي تزيد عن الخمسين عدا إنما جرى التدقيق بها بعد ثلثمائة سنة من ميلاد سيدنا عيسى -عليه السلام- فأبقى منها أربعة وترك الباقي وفي جهات كثيرة من هاته الأناجيل الأربع مباينات كلية يناقض بعضها البعض الآخر وهذا من الأمور الطبيعية لأن النصرانية ظلت ثلثمائة سنة تحت طي الخفاء وفي الوقوف على الحقيقة في إخلال هذا المقدار من السنين إشكال لا يحتاج إلى إيضاح.

قالت: ما قولك في التوراة؟ قلت: لا يخفى أن التوراة قد أحرقت وفقدت حينا من الزمن, ثم كتبت عن الحفظ مجددا فمن هذه الجهة لا تفيد علم اليقين بخبر واحد وبين أيدينا الآن ثلاث نسخ منها يناقض بعضها بعضا وفي ذلك دليل كاف على أنها محرفة لأن كلام الله لا يمكن وجود التناقض فيه.

قالت: ما هي المناقضات التي رأيتها في التوراة.

قلت: مهلا فأنني سأجد لك فيها تناقضا مهما. قلت ذلك والتفت إلى جارية كانت على مقربة مني وأشرت إليها أن تأتيني بالمحفظة الحمراء الموضوعة على الطاولة فأسرعت الجارية وجاءت بالمحفظة المطلوبة ودفعتها إليها فاستأنفت الحديث مع المادام. قلت: إليك بيان التناقض إن المدة التي مرت من خلقه آدم -عليه السلام- إلى طوفان نوح -عليه السلام- إنما هي بمقتضى النسخة العبرانية (١٦٥٦) سنة وبموجب النسخة اليونانية (٢٢٦٢) سنة, وبموجب النسخة السامرية (١٣٠٧) سنوات.

ولما كان هذا التناقض والاختلاف فاحشا جدا كان يتعذر التوفيق بين هاته النسخ وبموجب النسخ الثلاث أيضا يظهر أن نوحا -عليه السلام- كان حين الطوفان بالغا ستمائة

<<  <   >  >>