ومعه ذكرت قصة الذبح كلها، وبعد الفراغ من بيانها ورد ذكر البشارة بإسحاق، والآن إذا كان إسحاق هو الغلام الحليم فكيف يصح بعد ذلك قوله تعالى:{بشرناه بإسحاق}؟ ويؤيد هذا أيضا ما ورد في سورتي الحجر والذاريات حيث وصف إسحاق "بغلام عليم"، وكأن إسماعيل هو الغلام الحليم وإسحاق هو الغلام العليم، وقبل أن نفرغ من هذا الاستدلال نرى من الضروري أن نبين أن سفر التكوين حين أمر بذبح الابن، أمر بذبح الابن الوحيد، وقد ثبت أيضا من التوراة أن ولادة إسحاق عليه السلام كانت بعد ولادة إسماعيل عليه السلام بثلاث عشرة سنة، ولهذا فمن الواضح أنه لا يمكن القول بأن إسحاق عليه السلام هو الابن الوحيد بينما له شقيق أكبر منه، وفي القرآن الكريم وبعد بيان واقعة الذبح ورد قوله تعالى {وبشرناه بإسحاق} وهذا يدل على وقوع قصة الذبح قبل ولادة إسحاق، وبما أن إسماعيل كان إذ ذاك هو الابن الوحيد لأبيه فإن هذه الصفة تصدق عليه دون غيره.
والوجه الثاني للاستدلال هنا هو أن الآيات المذكورة قبلا من سورة الصافات تقدم شهادة ذاتية داخلية على أن الذبح العظيم الذي وضع إلى الأبد في الأجيال السابقة قد جعل فدية ذبيح، والآن أمام العالم كله حالات أمة بني إسماعيل وحالات أمة بني إسحاق، ويمكن لكل إنسان أن يرى من يحتفل بذكرى الذبح منذ أكثر من خمسة آلاف سنة .. ، ومن ذا الذي لا يوجد عنده لهذه الذكرى عين ولا أثر؟!، ونقدم هنا نصا من التوراة لإثبات ذلك، فقد ورد في سفر أشعياء ما يلي:
"تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب، كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمال." الأصحاح ٦٠/ ٦، ٧ [ص:١٠٦٥].
ومديان وعيفة وشبا هم بنو قطورة، أي أبناء أخي إسماعيل ممن سكنوا اليمن، وليسوا بني إسرائيل، وكذلك قيدار ونبيت كلاهما ابنان لإسماعيل، فتقديم هذه الأمم كلها القرابين على مذبح واحد، وإخبار الله تعالى في القرآن بأنه مذبحه، وكذا وجود البيت الذي قال عنه أنه البيت الحرام، كل هذا يدل دلالة واضحة على أن مكان هذا المذبح كان في مكة حيث أقام إسماعيل عليه السلام، وحيث سكنت حولها ذرية ابنيه قيدار ونبيت، وإنكار هذا الدليل الواضح إنما هو إنكار للبديهيات.