للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان غريبا أن تعمي حفنة من التراب عيون ألف من عميان القلب، ولذا كشف القرآن الكريم هذا السر فقال إن القدرة الإلهية لعبت دورها في ذلك، وقد حيرت أفعال هذه القدرة العقل الإنساني دائما وستبقى هكذا.

وقد رأى البعض أن النفي في قوله ((ما رميت)) والإثبات في قوله ((إذ رميت)) والنتيجة في قوله ((ولكن الله رمى)) كل ذلك يوحي باتحاد الذات والحلول، ولذا رأوا أن هذه الآية تكشف النقاب عن وجه الحقيقة المحمدية، ولكن مثل هذا الفهم مجرد زعم واغترار.

ويقال في حقائق هذه الآية أن واقعة الرمي كانت غريبة نادرة في عيون الأعداء أيضا، وبالنظر إلى خلق النبي (ص) الكريم وعفوه وحلمه ورأفته بأمته، فإنه (ص) لم يكن يجزي السيئة بالسيئة أبدا، ولم تكن يده الكريمة تمتد إلى أحد بالسوء والضر، وقد سمعه الناس بمكة ورأوه نحو ثلاث عشرة سنة لم تصدر عنه كلمة أف، ولم يكن يحرك لسانه فضلا عن يديه، فكيف بمحمد قد تغيرت عادته؟ هل تغيرت فطرته؟ وهل تبقى أخلاق محمد أسوة للناس بعد ذلك؟

إن رب العالمين لم يرض أن يقال مثل هذا الكلام، ولو رمزا في حبيبه محمد (ص)، ولذا أسرع بالرد والنفي فقال ((وما رميت))، وبذلك أوضح أن خلق محمد (ص) هو هو كما عرفته الدنيا، إذ ليس له علاقة بهذا الفعل، لا بذاته ولا بإرادته ونيته، بل النبي (ص) قد فعل امتثالا لأمر الله تماما كما يحدث للقوس في يد الرامي، فلا تتكلموا بكلمة في ذات رسول الله (ص)، بل تصوروا هذا الفعل واحدا من مظاهر جلال الله تبارك وتعالى.

وإثبات الفعل في قوله ((إذ رميت)) من نفس الجهة التي أثبت فيها الرمي للقوس والنفي في قوله ((وما رميت)) حقيقته مثل الرامي بالنسبة إلى القوس. فالمحل الأصلي للآية هو الذب عن الرسول (ص)، ودرس للمسلمين بأنه يجب عليهم أيضا الرد على مطاعن الأعداء التي توجه إلى ذات النبي (ص) نتيجة قصور نظرهم وسطحيتهم فمن يقول بصحة الاتحاد والحلول بالنسبة للقوس والرامي وللبندقية ومطلقها؟!!!

نعم إن الآية تبين حقيقة أخرى أيضا، اقرأوا في نفس سورة الأنفال ما طلبه كفار مكة من الله تعالى، {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (١).


(١) الأنفال: ٣٢.

<<  <   >  >>