للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالمعنى: "أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع في بدائه العقول. أم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعًا. فعلم أن لهم خالقًا خلقهم، هو الله سبحانه. وقد ذكر سبحانه الدليل بصيغة الاستفهام الإنكارى ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن لأحدٍ إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: إنه أحدث نفسه". (١)

وقد تبين بذلك أن القرآن الكريم في خطابه للنفس البشرية، من أجل تقرير هذه الحقيقة، يأمر بإعمال التفكير والتدبر، حتى يصل إلى تلك المبادئ الفطرية، والمسلمات اليقينية، التي لا يمكن ردها، ولا الاستدلال عليها، فيرتفع بذلك الغطاء الذي حال دون الشعور بها.

فمعرفة الله تعالى فطرية في النفس، سواء حصل العلم بها ضرورة، أو بالتفات النفس إلى ذلك؛ لشعورها بطلبه والحاجة إليه، ويمكن أن يتمثل ذلك الالتفات بصورة دليل تكون مقدماته فطرية؛ لأن الاستدلال على وجود الله تعالى في أصل الأمر يرتكز على مبدأ فطرى لا يمكن الاستدلال له، يقول شيخ الإسلام: "والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهى إليها، فإذا وقع الشك فيه انقطع طريق النظر والبحث". (٢) وهذا ما حكاه الغزالي عن نفسه حين حالت الشبهات بينه وبين هذه الأوليات الفطرية، حيث سمى ذلك الشك في تلك المسلمات مرضًا، وبين أن طريق اهتدائه ونجاته منه لم يكن بنظم دليل، وإنما بنور قذفه الله تعالى في صدره. (٣)

وفى بيان فطرية الأوليات التي يقوم عليها الاستدلال على وجود الله تعالى، يقول شيخ الإسلام: "وإن كان فيها قوة تقتضى المعرفة بنفسها، وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة، لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة، سواء


(١) الرد على المنطقيين: ٢٥٣.
(٢) الدرء: (٣/ ٣١٠).
(٣) المنقذ من الضلال: ٢٣.

<<  <   >  >>