سبق وأن أشرت إلى عظم مكانة القرآن الكريم من بين الكتب المنزلة، وكيف أن المولى تعالى قد اجتباه واختاره ليكون المهيمن عليها، والحافظ لأصول الإيمان فيها حتى أوكل المولى تعالى حفظه إليه، لتبقى له هذه المكانة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولما اقتضت حكمة العزيز أن كل ما في الكون إنما يسير وفق سنن مطردة ثابتة، فليس ثمة أمر يقع من مقدور الله إلا وقد هيأ المولى له أسبابًا، يتأتى بها وقوعه وفق مشيئته سبحانه، وأن هذه السنن لا تخرق إلا لأمر عظيم، يرشد به المولى عباده لصدق نبيه، أما سوى ذلك فلا يخرج عن هذه السنن، التي يكمن بتسخيرها المطرد عظمة الخالق عز وجل، وإحكامه في خلقه، ومن ذلك حفظه لهذا الدين القويم، بحفظ دستوره العظيم، وهو القرآن الكريم.
فإن المولى تعالى لما قدر له البقاء والاستمرار، واختاره ليكون خاتم الدين المنزل، والمهيمن عليه، وفق لحفظه أسبابًا، هي محض كرمه تعالى وتوفيقه، يرفع بها من يشاء من عباده، فسخر له رجالًا كان لهم الفضل والسابقة في حفظه وتبليغه، بل والتفانى في الدفاع عنه، حتى اشتمل ذلك الاحتفاء البالغ به على فهم تفسيره بحفظ السنة المطهرة - المصدر الثاني من مصادر التشريع - فبذلوا في سبيل القيام بهذه الأمور العظيمة النفس والنفيس، فكان لهم شرف الهجرة والجهاد، إعلاءً لراية الدين عقيدة ومنهاجًا، حتى وجب لهم بذلك الحق الأرفع في توليهم، وتعظيمهم، وإظهار مكانتهم، والاعتراف بجميل فضلهم، والدعاء لهم بالترضى والاستغفار، وحفظ أعراضهم والذب عنهم، إلى غير ذلك مما يمليه واجب شكرهم، كما أتى الأمر بذلك في صريح الكتاب قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: ١٠٠]