ولكن قد يتبادر إلى الذهن سؤال؛ وهو إذا كان التحريف حقيقة لا شك في وجودها، فلا يمكن بحال تنزيه تلك الكتب عنها، فلماذا أتى الأمر بإقامتها وإعمال ما فيها؟ وليس ذلك فحسب بل قد أنيطت النجاة بهذا التمسك، كما أتى ذلك صريحًا في غير ما آية، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}[المائدة: ٦٦].
إن الإجابة عن هذا السؤال تكون ببيان حقيقتين لهما علاقة وثيقة بحقيقة التحريف:
الأولى: أن التحريف لم يكن على ضرب واحد وقد أشرت إلى ذلك مسبقًا عند عرضي لأقوال الصاوي في هذا المجال، فلم تكن جميع ألفاظ الوحي قد حرفت، بل هناك حقائق غيبية كثيرة لا تزال في تلك الكتب كالتوراة والإنجيل ولكن البخل والحسد الذي أعمل في قلوب كثير من أهل الكتاب حملهم على تحريف النصوص بالتأويل الباطل، فلا يصرحون إلا بما يوافق نفوسهم المريضة، وأي أمر خالفها كالأمر باتباع الرسول فإنهم يقومون بإخفائه أو طمسه أو تأويله التأويل الباطل، كما أشار إلى ذلك الصاوي في عدد من المواضع، كحادثة الرجم وغيرها مما هو من شأن أهل الكفر والإلحاد في كل زمان ووقت.
أما الحقيقة الثانية: فقد نبهت إليها وهي أن جل الحكمة من الأمر بإقامة التوراة والإنجيل والعمل بمقتضى أخبارها هو الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وطاعته والدخول في دينه، فقد نبه القرآن الكريم إلى وضوح معالم شخصية النبي المنتظر وانطباقها تمامًا على شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم حتى قال عز من قائل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: ١٤٦]. يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - مبينًا حقيقة الأمر بإقامة الكتاب: "فإن إقامة الكتاب: العمل بما أمر الله به في الكتاب، من التصديق بما أخبر به على لسان الرسول.