قد اعتقد أن العبد إذا استغرق في مقام الفناء؛ فإنه يصل إلى البقاء بربه، حتى يتمكن من شهود ذاته تعالى متصفة بالأسماء والصفات، وبالتالي فإن أفعاله تصير مرادة للحق تعالى مهما كانت على اعتبار موافقتها لأفعال الله القدرية، حيث شهد ذاته تعالى متصفة بصفات الربوبية، فهذا نوع من التعمق في شهود القدر بما لم يشرع، بل هو عين مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن فيه مماثلة لأفعال المشركين الذين احتجوا بالقدر، وليس لهم حجة في ذلك؛ لقيام الحجة عليهم بالتكليف وإرسال الرسل، وقد سماهم شيخ الإسلام بالإبليسية؛ لموافقتهم إبليس في فعله، والذي يترجح عندي أن هذا الحال مخالف للشطحات التي قد تصدر من الفاني بلا إرادة، لأن البيت الذي استدل به على ما قدم من أحكام وهو:"وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا"، فيه إثبات لمشيئة المريد، فليست تخرج أفعاله عن مقتضى إرادته. وهذا هو حقيقة وصفه بالبقاء، ومن ثم فلا حجة له في زوال التمييز؛ لأنه في حالة صحو كما هو ظاهر، وهذا ما يسمى بإسقاط التكاليف.
وعليه فإن في هذا الكلام من إبطال الشرائع، وهدم العقائد ما لا يخفى خطره، ومن ثم فليس يحتاج لهدمه كبير معول، وتكفي الإشارة إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل العابدين، وأيضًا ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - من التمسك بشرائع الدين حتى لقوا الله على ذلك، ولا شك أن هذا من الأوهام الصوفية المتأثرة بغثاء الأمم الكافرة من الفلسفة والبوذية وغيرها.
ومن جملة ما ادعاه الصاوي لهذه المرتبة من الأحكام أن يقول صاحب المقام المستغرق في الذكر للشيء كن فيكون بإذن الله، فإن هذا في حقيقة الأمر من أوهام الصوفية التي لا تستند إلى شرع أو عقل، وقد تقدم الحديث عنها في مبحث شهادة التوحيد ونواقضها؛ فإن هذه الكلمة هي مما اختص الله تعالى به لتمام ربوبيته وقيوميته واستغنائه عن كل ما سواه، وقد أتت بما يفيد الحصر، فلا مثيل له ولا رب سواه:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل: ٤٠]