الثوب رجع إليه، فدفع له الثوب مقصورًا، أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة، فقل: أخطأت. وإن قال: لا أجرة له فقل: أخطأت، فصار إليه فسأله فقال له أبو يوسف: له الأجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له. فقال: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصّار؟. قال: أجل، قال: سبحان الله، مَنْ قعد يفتي الناس وعقد مجلسًا يتكلم في دين الله وهذا قدره لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات! فقال: يا أبا حنيفة، علمني. فقال: إن قصره بعد غصبه فلا أجرة له؛ لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة لأنه قصره لصاحبه، ثم قال: مَنْ ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه. [المنتظم ٨/ ١٣٠].
• وعن أبي يوسف ﵀ أنه قال: توفي أبي وخلفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصّار أخدمه، فكنت أدع القصَّار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة ﵀، فأجلس فأستمع، وكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصَّار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي، لما يرى من حرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا كسب له، وأنا أطعمه من مغزلي، وآمل أنه يكسب دانقًا يعود به على نفسه. فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.
ثم لزمته، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلَّدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدَّم إليَّ هارون فالوذجة بدهن فقال لي هارون: يا يعقوب، كل منه، فليس كل يوم يعمل لنا مثله. فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت. فقال لي: مم تضحك؟ فقلت: خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين. فقال: لتخبرني وألحَّ عليَّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فتعجب من ذلك، وقال: لعمري إن العلم يرفع وينفع دنيا وآخرة. وترحَّم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يرى بعين رأسه. [المنتظم ٩/ ٧٣].